لا جدال فى أن التعصب الدينى هو أحد الكوارث الكبرى التى حلت لعنتها على هذه البلاد خلال العقود الخمسة الأخيرة، وعلى الرغم من وعى الكثيرين من الصفوة المثقفة ومحاولة التعامل معها، إلا أنها تستشرى يوما بعد يوم، ذلك لأن المتعاملين مع هذه الكارثة يتعاملون معها بشكل تبسيطى ظنا أن الحل بسيط ويكمن فى بعض الاحترازات البسيطة والإجراءات الشكلية والأبعاد الاقتصادية .
إن المسألة ..مسألة التعصب الدينى..أخطر مما نتصور بكثير وعندما نتعرض لحلها فما لم نلمس الوتر الحساس والعلاج الدامغ فربما لا نزيد الأمور إلا استشراء وتعقيدا. فالتعصب الدينى وروح عدم التسامح والنفور من الآخر وإكالة التهم على الآخر والكراهية المستفحلة وغيرها من ألوان الفساد التى راحت تجتاح هذا المجتمع لا يصلح معها التعاطى الاقتصادى أو حتى الأمنى أو الدينى أو حتى الحقوقى، واللعب على هذه الأوتار ما هو إلا تعامل سطحى من خلال المسكنات واستعراض المعلومات البائتة التى جربت مرارا ولم تجد شيئا.
فلا العدالة الاقتصادية ولا سطوة الأمن ولا المؤتمرات الحقوقية من شأنها أن تقدم حلولا فعالة بل مسكنات فقط. كما أنه من العبث التعويل على إصلاح الخطاب الدينى إسلاميا كان أم مسيحيا لأن الساحة مليئة بهم ولا حياة لمن تنادى وإذا وجد هناك صوت معتدل فسيوجد بجواره مئات الأصوات المتعصبة الجهولة وليس من الحكمة تكميم الأفواه، فكل إنسان له الحق فى أن يقول ما يشتهى ويدعو إلى ما يريد بل إنه من المستحيل عمليا فى هذا العصر تكميم الأفواه. إذن فلا داعى للتعويل على الأبعاد الاقتصادية أو الأمنية أو الحقوقية أو الدينية وخصوصا أن روح الكراهية وروح التعصب قد اخترقت كل هذه الأجهزة التى سقطت هى الأخرى ضحية لهذا التيار البغيض فكيف ترجو حلا من هذه الأجهزة وهى المصابه فعليا بهذا الداء؟
أعلم يا عزيزى أن التعصب الدينى وروح الكراهية وعدم قبول الآخر هى فى جوهرها أعراض وليست أمراض. أما المرض الحقيقى الذى قاد الى هذه الأعراض وغيرها من سائر ألوان الفساد التى لا تعد ولا تحصى فى بلادنا فهو الجهل الذى ارتضيناه سبيلا واستسلمنا لمخالبه وسقطنا فى بركته فى العقود الأخيرة. كل ما ترى حولك من ألوان الفساد هو وليد الجهل وحده ووليد التأخر العلمى فى عصر العلم الذى لا يعترف بالجهل ولا يعترف بأى تفكير غير علمى. إذا أردت أن تهتدى يا عزيزى إلى أسباب الحماقة الدينية وغيرها فانظر الى الخراب السائد فى المدارس والجامعات وانحدار المناهج وانحدار المدرس وانظر الى العقلية المصرية وكيف صار مستوى تفكيرها وما نوع القضايا التى تشغلها وما نسبة الإطلاع والقراءة بين الناس وما نوع الكتب الأكثر قراءة.
لقد قضينا على العلم والمتعلمين وفتحنا الباب أمام الجهلاء ليتسيدوا الساحة بسطوتهم وأموالهم فسقطنا فى ظلمات الجهل والتخلف والعداوة وحدث ولا حرج. يا قوم عندما تفكرون فيجب أن تفكروا بشكل علمى فمشكلة كمشكلة التعصب الدينى وما ترتب عليها لا تحل هكذا بسهولة عن طريق بعض النصائح الفضفاضة وربنا يسهل وإحنا أخوات وعيب علينا كده....
فيجب علينا أن نسأل أنفسنا أولا هل المواطن المصرى من حيث المبدأ مواطن طبيعى ومنسجم مع العصر الذى يعيش فيه وواقف على معطيات عصره بشكل فعلى حتى نتعامل مع سائر مشاكله؟ والإجابة هى لا بكل المعايير. المواطن المصرى مواطن جاهل فى عصر العلم ولذلك فهو مواطن غير طبيعى من حيث الأصل، لأن المواطن الطبيعى بمعايير هذا العصر هو ذلك المواطن المترافق مع التقدم العلمى السائد فى العصر، وأكثر الناس جهلا هم حملة الشهادات المتوسطة والعالية أيضا، والجاهل عرضة للوقوع فى شتى الأمراض بمنتهى اليسر.
لماذا أنا متعصب؟ لأننى جاهل. إذن فالتحدى الحقيقى الذى يواجهنا هو إصلاح النظام التعليمى وإعادة هيبة التعليم الحقيقى ووضع التعليم كشرط أساسى من شروط تبوء الساحات والعمل بكل قوة الى تحويل العقلية المصرية الى عقلية علمية مهتمة بأفرع العلوم الحديثة من منطق ورياضيات وتكنولوجيا وكيمياء وفيزياء وغيره.
ونقول إصلاحا حقيقيا وليس شكليا مبنيا على تصريحات الوزراء والمسئولين الذين لديهم القدرة على تصوير البرك والمستنقعات الى جنات نضرة. لقد قال العالم الكبير د. أحمد زويل "إن التعليم فى مصر كارثة بكل المقاييس"، وهذه هى مشكلتنا الحقيقية يا أخى ونحن لا ندرى.
إذا كان هناك مثقفون حقيقيون ومهتمون فعلا بملف التعصب الدينى وغيره من سائر الهموم الثقيلة فأعتقد أن أمامنا تحديات أربعة لا بد من التركيز عليها بكل قوة فى الوقت الراهن:
1. إصلاح المؤسسة التعليمية إصلاحاً حقيقيا وجذريا، ووضع التعليم فى بؤرة الاهتمامات القومية، فليس أمامنا أى خيار آخر إذا كان ولا بد من القضاء على شتى أنواع الفساد واللحاق بقطار الحضارة الذى مر وتركنا نياما نفتخر بالماضى وبالدين. ومع محاولاتنا لإيقاظ الحس العلمى بداخلنا فلا بد أن نعمل على إسكات الجاهلين وأنصاف المتعلمين ولا بد من وضع تدابير لذلك على المستوى الفكرى والثقافى وليس على المستوى الأمنى. كفانا جهل فى عصر العلم. إنه وإن كان هذا الكلام يبدو مرسلا وفضفاضا إلا أننا ليس أمامنا سوى هذا الطريق لدخول العصر الحديث والتخلص من آفاتنا، وسواء اليوم أو بعد ألف عام فسوف نضطر فى النهاية الى اللجوء الى ذلك السبيل حتى نكون أمة لها وزنها.
2. العمل على إعلاء سيادة القانون مهما كانت العواقب، والتخلى نهائيا عن الأساليب التسكينية فى فض المنازعات الطائفية.
3. العمل على توقيف الشعارات الدينية فى المحافل العامة ووضع قنوات محددة من قبل الدولة لا يتم التعامل مع العملية الدينية إلا من خلالها.
4. العمل بكل الطرق على فتح باب للحوار السلمى بين التيارات الدينية المختلفة لكى يتسنى للأغلبية الإطلاع بنفسها على ثقافة الآخرين بدلا من اللجوء الى الإشاعات والاتهامات الفارغة والمعلومات الكاذبة التى يبثها دعاة العداء والكراهية بين الناس.
عبد الباسط أبو العلا يكتب..التعصب الدينى...تشخيص وعلاج
الجمعة، 29 يناير 2010 04:07 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة