معصوم مرزوق

الدم الرخيص ...!!

الأحد، 17 يناير 2010 07:41 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أصبح عادياً جداً، مألوفاً لحدقاتنا المجهدة، فى الصبح والمساء، وفى كل الأوقات، أن نشاهد الدمار والخراب والجثث المتناثرة فى الأرجاء، فى شوارع عاصمة الخلافة العباسية، فى أفغانستان، فى باكستان، فى فلسطين... دم، دم، دم ... جفت الدموع فى الأحداق ولم تجف الدماء ...

ما هذا الجنون؟ ... اللامعقول صار أكثر من معقول، والعبثية صارت عنوان كل يوم، ومع ذلك، بل ورغماً عن ذلك، فلا زالت عواصم الورد والياسمين تدغدغ مشاعر البشر بأنغام حقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى، لا زالت تلك العواصم ترتدى زى الحمل وهى التى تخرج من أحشائها أفتك أسلحة الدمار، وترسم بطبشور الدم مصائر الشعوب المغلوبة على أمرها، أو التى هان أمرها على نفسها فهان على غيرها ...!! .
لقاء الحضارات :
فى إحدى تلك العواصم المتلألئة بأضواء الفكر الإنسانى، والتى ترشرش على العالم المجهد ذرات من دموع التماسيح، وقف الدبلوماسى الشرقى فى أحد المنتديات كى يقول : " أن الرئيس الأمريكى ودرو ويلسون هو إسم الرجل الذى كان يرى الجانب الأخلاقى أساساً للسياسة الخارجية، فى إطار مبادئ القانون الدولى، وأن رئيساً أمريكياً آخر هو كوينسى قال فى بلاغة أن أمريكا لا تذهب إلى خارج حدودها بحثاً عن وحوش لتقتلها، وإنما هى الدولة التى ترسل أمنياتها الطيبة بعالم يسوده السلام والمحبة " ... وكأن ذلك صوتاً تائهاً فى البرية، أو أصداء لذكريات زمن البراءة والطهارة التى لم يعد يعرفها هذا الزمن المتوحش ...

وقفت تلك الطفلة العشرينية الشقراء بعد انتهاء الندوة تتحاور مع ذلك الدبلوماسى الشرقى المخضرم، تسأله أن يحدثها عن المزيد من الحق والعدل والمساواة والحرية، تقول له بدهشة أنها لم تعد تسمع عن هذه المعانى، وأن ما تعلمته فى جامعتها المشهورة يتعلق فقط بقواعد السياسة العملية أو Realpolitik، وتوازن القوى Balance of power، والكثير عن النصر التاريخى للغرب فى الحرب الباردة، وعن صراع الحضاراتConflict of Civilization، سألته من أى مصدر يستقى ذلك اليقين العجيب فى عالم أكثر حباً وعدلاً ومساواة، ذكرت له أنها لم تتعلم منذ طفولتها سوى أن "البقاء للأصلح"، وأن الضعيف لا يستحق الإحترام لأنه قبل على نفسه هذه الصفة ...

كان يسمعها بصبر مشوب بالألم، فهذا الكائن الرقيق البديع يحمل فى أحشاء عقله بذور وحشية، أن ملائكية المظهر تخفى شيطان الجوهر، ولكنه شعر بالرثاء لها، فهى نتاج حضارة مادية وعصر غير متسامح، فهى بشكل ما ضحية أيضاً لمفاهيم غرست فيها دون إرادتها حتى أصبحت جزءاً من نسيجها الفكرى، وبطبيعة الحال تحدث إليها كمسيح معذب مصلوب على جدران أفكاره وأحلامه، حاول أن يخترق قشرتها الصلبة كى يصل إلى أعماق فطرتها البريئة، فسرد عليها بعض التاريخ وبعض أدبيات عصر الفرسان والأخلاق، شرح لها الفارق بين مثالية ودرو ويلسون وواقعية تيودر روزفلت، لم تكن مقتنعة تماماً، وكان ذلك مفهوماً لأنه من الصعب أن يهدم فى دقائق قلاعاً من الصلب غرزت فى أعماقها، وأتفقا على مواصلة الحديث عبر البريد الإليكترونى ... وسافر ...
بريد إليكترونى :

فى البداية فكر أن الأمر لن يزيد عن ذلك، وهو ما تكرر كثيراً خلال رحلته الدبلوماسية عبر أقطار الارض الأربعة، ولكنه تذكر ذلك الهولندى الذى قابله فى أمريكا اللاتينية، وكان أكثر تشدداً وتعصباً وإحتقاراً لكل ما هو غير غربى، لقد تغير ذلك الرجل عبر حوارات ممتدة، بل أصبح متحمساً لقضايا الإنسان المغلوب على أمره وخاصة فى فلسطين ... بضع سطور فى البريد الإليكترونى لن تستغرق وقتاً طويلاً على أية حال .. كتب لها وأرفق بعض صور الدم .. وجاءه الرد فوراً محتشداً بأسئلة أكثر .. أجاب وأرفق مزيداً من صور الدم .. وفوجئ بها ترسل إليه غاضبة أن يكف عن تلك الصور التى أصبحت كوابيساً تؤرقها وتجرح مشاعرها المرهفة .. فأرسل لها بضع سطور يشرح لها فيها أن تلك الكوابيس هى حقيقة كل يوم فى عالمنا، وأنها لم تعد تؤذى شعور أحد، فالناس تشاهد كل هذه البشاعة على شاشات التليفزيون أثناء تناول طعام العشاء دون أن تفقدهم الشهية أو يتقيأون ... صارت أمراً عادياً ...

أرسلت له سطرين أخيراً تعلن فيهما تقززها من ذلك " الدم الرخيص " Cheap blood، وتسأل كيف يرضى الناس بذلك ؟؟ ..

لقد قالت أنه دم رخيص، إلا أن تكلفته الحقيقية باهظة تصل إلى مليارات يحصلها صناع السلاح والدمار، بل إن التكلفة تزيد على ذلك فهى تعبر عن كرامة بشرية لا تقدر بثمن يتم إهدارها، وعن ضمير إنسانى يفقد حسه ويتبلد، وعن شعوب تساق إلى مذابحها كما تساق المواشى ... لا ليس دماً رخيصاً، بل هو فكر رخيص، سياسة رخيصة، وقوة رخيصة ...
قرر ألا يكتب لها مرة أخرى .. فهى قالب تجمد ولا سبيل إلى إعادة تشكيله سوى بكسره، أن بحوراً من الدموع لن تغسل ذلك الضمير الذى دربوه على التبلد، ولن تجدى آلاف السطور والمناشدات فى تحريك القلب الجامد، فدم الضعفاء رخيص فى نظرهم، ولن تزيد قيمته سوى بالمقاومة، فالحديد لا يفله سوى الحديد .. ولكن كيف ؟؟.
جهاد النفس :
المقاومة لا تعنى بالضرورة إعلان الحرب على العالم، ولا هى دعوة للإنتحار، المقاومة فى أولى ترتيباتها تعنى إدراك نقاط الضعف ومعالجتها، تحديد العدو بشكل واضح، فلن يكون من المفيد أن يضاف إلى القائمة كل يوم عدو جديد، بل يجب أن يكون الحرص على إزاحة أكبر عدد ممكن من هذه القائمة، فالعدو هو الذى يهدد بالفعل وجودك وحريتك وهويتك، ليس هو العدو المتوهم، أو الذى لا يشتمل تهديده على أمورك الجوهرية، ثم من المهم الوعى بالذات وبالمعطيات الواقعية لها، والمحاولة المستمرة لدعمها بما يخدم قضية المقاومة، فالجسد القوى هو المانع الأول لإختراق الجراثيم والميكروبات، وجهاز المناعة لأى أمة يتشكل من قوة الإستغناء من خلال الإعتماد الجدى على النفس والثقة بها بغير إفراط أو تفريط، أن نوقظ فى شبابنا الشعور الوطنى من خلال منهج علمى ( وليس عن طريق مبارايات كرة القدم !! )، أن نزودهم بسلاح العلم الذى يكسبهم مزيداً من الثقة بالنفس، وليس بأسلحة التطرف العاطفية الخشبية التى لا تقتل نملة وتؤذى بأكثر ما تنفع، أن لا نتظالم فيما بيننا، والفساد أكبر مظاهر الظلم لأنه مثل السوس ينخر فى جذع الأمة فيضعفها ويفتتها، وأن نكون أكثر صراحة مع النفس من خلال حوار الشركاء لا حوار الطرش .. بإختصار علينا أن نبدأ بالجهاد الأكبر ( جهاد النفس ) قبل أن نشرع فى الجهاد الأصغر ( جهاد العدو ) الذى ربما لا نحتاج إليه إذا انتصرنا فى الأول ..

رغم كل شيئ، قرر الدبلوماسى الشرقى المخضرم أن يرجع عن قراره ويواصل الكتابة للغربية الشقراء على بريدها الإليكترونى، سيقول لها أن دمنا ليس رخيصاً، سيصر على محاولة الوصول إلى أعماقها التى لا يشك فى طهارتها كطهارة النفس البشرية بشكل عام، سيحاول أن يخلصها من قيود الفكر الوحشى التى كبلتها منذ طفولتها، ربما نجح فى تحريرها من عبوديتها، والحق أنه لا توجد قضية خاسرة لحق عادل إلا إذا تهاون أصحاب القضية فى متابعتها بكل ما يملكون من وسائل، وليس أمام المظلومين سوى الصبر والإصرار والمواصلة، ولن يضيع حق وراءه مطالب ..

كتب للغربية الشقراء رسالة حب تستدعى ذكريات عناق الأندلس فى لحظة الوهج الحضارى الإنسانى المتألقة، قال لها أن دمى هو دمك، ولن أرضى لدمك أن يكون رخيصاً، فلا تقبلى أن يصبح دمى المسال خبراً من أخبار اليوم العادية ...

• عضو اتحاد الكتاب المصرى









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة