على عبد الجليل

مؤسسات صناعة المثقفين

السبت، 16 يناير 2010 07:20 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل يولد الإنسان مثقفاً مكتمل المعارف والتجارب والخبرات؟ وهل هناك مثقف يصنع ثقافته بنفسه دون الاستعانة بالآخرين؟ لا أعتقد أن أحدا مهما كانت قدراته الخاصة يستطيع أن يكتسب ثقافة ما معزولاً عن الآخرين الذى تراكمت من خلالهم الثقافة وانتقلت عبر أجيال وأجيال، صحيح أن العمل الفردى والجهد الذاتى هو الذى يسهم فى تأسيس الوعى الثقافى لدى الفرد، لكن هذا الجهد لابد من أن يحاط بعمل جماعى مؤسساتى، فهل يستطيع طفل أن يكتب دون أن تمتد أيدى معلمه أو والديه بالمساعدة؟ هل يمكن أن تتحرك أنامله بريشة يرسم بها لوحة ويخط بها ألوانا دون أن تقدم إليه أوراق بيضاء وأقلام وألوان؟، وهل يمكن أن تتفتح مداركه وتتطور معارفه وتتسع مهاراته دون أن يحتك ويتداخل مع كل ما حوله ومن حوله؟، ودون أن يجد عبارة مدح أو ثناء أو تشجيع من هنا أو هناك؟.

إننا لا نبدع منفردين ولا نفكر مستقلين، بل إن نجاح أفكارنا ورؤانا هى فى تلاحقها مع تلك الأفكار التى تطرح فى المجموعة التى ننتمى إليها رفضاً أو قبولاً، ونعنى بذلك هنا أن الثقافة جهد فردى لكنه لا يتم ولا يكتمل إلا بمظلة جماعية مؤسسية، وبدون الطرفين (الفردية والجماعية) لا تتكون الثقافة ولا يبرز المثقف الحقيقى.. فكم من مبدع وعبقرى ضل طريقه فى البداية وابتعد عن إضافة إنجاز حقيقى، لأنه لم يجد من يرسم له خريطة الطريق، ومن يزوده ببوصلة يتعرف من خلالها على الاتجاهات، ويجنبه العقبات والصعوبات.

ومفهوم المؤسسة التى ترعى المثقفين وتحتضنهم ليس مفهوماً حديثاً، بل هو قديم قدم الإبداع الإنسانى ذاته، وقد رأينا مثل هذا المفهوم فى تاريخنا القديم عند (القبيلة) التى كانت تفتخر بشعرائها وخطبائها وتجعلهم فى المقدمة، حتى إن القبيلة كانت تحتفل إذا ظهر فيها شاعر أو خطيب وتذبح الذبائح وتقيم الولائم، واستمر هذا المفهوم فى التطور والتنامى وأخذ أشكالاً مختلفة من خلال قصور الخلفاء وبيوت الوزراء والأمراء والمكتبات والمساجد ومجالس العلم، وغيرها من مؤسسات كانت تغدق بسخاء على أصحاب العلوم والمعارف والفكر والأدب.

وإذا سلمنا بأن المظلة أو الإطار الجماعى هو ضرورة لصناعة المثقفين فإننا مطالبون الآن أكثر من أى وقت مضى بتوسعة هذا الإطار وتطويره لكى يقوم بدوره، وبدون ذلك سيبقى الفرد وحده فى طريق طويل وشاق نحو تثقيف ذاته وتنمية ملكاتها وقدراتها، وإذا استطاع أن يفعل ذلك فسوف تنهكه العقبات ويجهده الزمن ويستنزفه الوقت، لأن ما قد ينجزه وحده فى عقود قد ينتهى منه فى شهور إذا تبنته مؤسسة أو شجعته ووفرت له ما يحتاج، ومن المؤسف أن هذا هو واقع الحال فى كثير من البلدان النامية ومنها أغلب دولنا العربية، حيث يسود اعتقاد لدى البعض بأن الثقافة والإبداع تعتمد على قدرات الفرد ومواهبه الذاتية وحدها، وأن عليه أن يثبت قدرته على مواجهة تحديات الواقع، وعليه فى الوقت ذاته أن يبتكر ويبدع ويسهم فى تطوير الحياة دون أن يعتمد على تلك المجموعة أو هذه المؤسسة.

وقد أسهم هذا الاعتقاد فى تراجع دور المثقف من ناحية، وفى زعزعة الثقة فى المؤسسات المعنية بالثقافة من ناحية أخرى، فأما دور المثقف فقد تضاءل نتيجة أسباب كثيرة مر بنا ذكرها، ومنها ما يتعلق بما نطرحه هنا وهو استعلاء المؤسسة الثقافية أحياناً على المثقف أو تعصيها عليه، نتيجة ما يوجد بها من قوانين ولوائح ونظم عقيمة وبالية، وهذا بدوره أضعف العلاقة بين المثقف وبين المؤسسات المعنية من ناحية وبينهما وبين الجمهور من ناحية أخرى.

وهنا يجب أن نطرح التساؤل الجوهرى: كيف تسهم المؤسسات المختلفة فى صناعة المثقف الحقيقى؟ وما تلك المؤسسات التى من الممكن أن تقوم بهذا الدور؟

وعلينا التأكيد هنا على أن المجتمع بأكمله معنى بالحراك الثقافى، فليس الفرد وحده وليست مؤسسات بعينها يناط بها مسئولية ذلك العمل، فالمجتمع كله يجب أن يكون حاضناً للإبداع راعياً للفكر ساعياً نحو توسيع وتعميق التنمية الثقافية، لكننا من أجل تقريب الصورة علينا أن نختار عدداً من هذه المؤسسات التى يجب أن تتولى المسئولية الكبرى فى رسم خريطة ثقافتنا العربية، فهناك مؤسسات يمكن أن نعتبرها رسمية وأخرى شعبية، فالمؤسسات الرسمية تعنى بها وتحتكرها الحكومات والأنظمة مثل (الجامعات – مؤسسات وزارة الثقافة – وسائل الإعلام) والمؤسسات الأخرى وهى جماهيرية تتحرك بعيداً عن الأطر الرسمية، وهذه المؤسسات الشعبية عديدة ومختلفة تبدأ من البيت ثم الشارع والمقهى.

وبقدر أهمية كل مؤسسة من هذه التى أشرنا إليها إلا أننا سنخص المؤسسات الرسمية التى تعنى بتأسيس الوعى الثقافى وبرعاية وتنمية مواهب المبدعين والمبتكرين وأصحاب الفكر.. وسوف نتناول كل واحدة من هذه المؤسسات فى مرات قادمة لنرى كيف تسهم فى صياغة مشروع مثقف حر ينهض بأعباء المرحلة التى يتحرك من خلالها، فهل الجامعات تقوم بهذا الدور؟ وماذا يحدث فيها ويتم من خلالها؟ ولماذا تخرج الجامعات سنوياً آلاف الخريجين ثم لا ينهض بالدور الحقيقى سوى عشرات منهم هنا وهناك؟ ما الخلل الذى أصاب منظومة التعليم الجامعى حتى صار دور الجامعات ينحصر فى حصول الطلاب على شهادات وأوراق ربما تزدان بها حوائط الجدران أكثر مما تنهض بها الأوطان!!

وماذا استطاعت مؤسسات وزراة الثقافة أن تفعل نحو إعداد جيل فاعل من المثقفين والمبدعين؟ وهل أسهمت وسائل الإعلام الحكومية والخاصة فى وضع ملامح مثقف هذا الزمان؟

كل هذه التساؤلات وغيرها لابد أن تطرح وبقوة، ونحن فى مفترق الطرق باحثين عن موضع قدم فى مستقبل مزدحم بمشاريع وخطط يضعها الكبار الذين يملكون حاضراً مزدهراً زاخراً بإنجازاته أكثر مما يملكون ماض يتباكون عليه ويكتفون باجترار أمجاده.

* باحث وإعلامى





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة