لأن اللحظة المصرية الحالية لحظة وهن وضعف وتراجع، فقد أصبحت مصر متلقية وقابلة، يؤثر فيها كل وافد مهما كان رديئا وسطحيا وقبيحا، وها هو وافد الجوار البدوى يجتاح مصر، ويوجه شبابها ورجالها ونسائها.
فمنذ أيام، دعا نقيب القراء الشيخ أبوالعنين شعيشع إلى عودة الأصوات النسائية التى تتلوا القرآن إلى الإذاعة، مذكرا أن مصر عرفت قارئات القرآن من سنوات طويلة مضت، وأن الإذاعة المصرية عرفت عددا من القارئات المعتمدات المجيدات، وأن نقابة القراء التى يرأسها منحت مؤخرا ترخيص القراءة لعدد من الأصوات النسائية بعد اختبارات دقيقة من قبل عدد من كبار العلماء.
وإذا بالشيخ الجليل صاحب التاريخ الطويل والمكانة الكبيرة فى دولة التلاوة يتعرض للنقد والهجوم والتطاول، باعتباره دعا إلى حرام، ونادى إلى منكر، وكأن مصر فى النصف الأول من القرن العشرين لم تكن تعرف دينها ولا تحترم إسلامها، عندما عرفت قارئات مشهورات أمثال الشيخة كريمة العدلية، ونبوية النحاس، ومنيرة عبده، وسكينة حسن التى أحتفظ لها بتسجيل نادر تقرأ فيه من سورة طه بصوتها الجميل، أو الشيخة مبروكة التى اكتشفت لها تسجيلا عمره مئة عام بالتمام والكمال، تقرأ فيه أول سورة الإسراء بصوتها الجهورى الممتلئ.
لقد هالتنى نتيجة الاستفتاء الذى تم مؤخرا على موقع اليوم السابع، والذى رفض فيه أغلب زوار الموقع أن تقرأ القرآن امرأة لأنهم يرون أن صوت المرأة عورة. وأنا بدورى أسأل هؤلاء الرافضين: من أين أتوا بهذه الكلمة؟ هل جاء فى القرآن أن صوت المرأة عورة؟ هل وردت هذه العبارة فى حديث صحيح أو حتى ضعيف؟ أقال بها أحد من الصحابة؟ وإذا كانت الإجابة بلا فمن أين لهذا العبارة اللقيطة كل هذا الانتشار؟
والإجابة على هذا السؤال لا تحتاج إلى جهد كبير، فقد وصلتنا هذه العبارة بعد أن احتملها سيل الفقه البدوى الضيق، مع زبد الفكر الصحراوى المدعوم بأموال النفط، هذا الفكر الذى يجتاح مظاهر الحياة فى مصر، عبر كتب وخطب، ودعاة ومشايخ، وفضائيات ومواقع، تبث ما احتمله السيل من زبد راب سيذهب جفاء، وتمنع ما ينفع الناس أو يمكث فى الأرض.
إن لمصر شخصيتها المميزة، القائمة على السماحة والاعتدال، والتعددية، ففى مصر كان الأزهر، وفى مصر وضع الأفغانى بذور النهضة، وفى مصر أقام محمد عبده الصرح الأكبر للتجديد الدينى، وفى مصر ولدت جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا، وفى مصر نشأت جماعة أنصار السنة المحمدية، وعرفت مصر سلفيتها الخاصة متمثلة فى مدرسة الإمام محمود خطاب السبكى والجمعية الشرعية.
وفى ظل كل هذه التيارات والمؤسسات والجمعيات، صدحت القارئات بالقرآن الكريم، وانطلق صوت كريمة العدلية عبر أثير الإذاعة المصرية، التى عرف العالم من خلالها معالم المدرسة المصرية المتميزة فى تلاوة القرآن، قبل غزو التلاوات الصحراوية البدوية، التى تهتم بالكم دون الكيف، وتتكلف خشوعا مصطنعا على حساب الذوق والجمال والإحساس بالكلمة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة