فصل من رواية "ليلة سفر" لمحمد ناجى

الجمعة، 15 يناير 2010 04:07 م
فصل من رواية "ليلة سفر" لمحمد ناجى الروائى محمد ناجى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
" كوكب"
شقة كوكب على الواجهة الأخرى للبيت، سوق خضار ومخبز ومئذنة. أكثر من جهاز كاسيت، كل شريط صوت وحده. أسلمت أذنيها لصوت مغن صعيدى يدق على الربابة، كلامه ضائع فى زحام السوق، لكن النغم سرق قلبها. حاولت أن تغنى معه كلاما من عندها، لكن كلامها ارتبك، وسحب مغنى الربابة النغم فى طريق غير الطريق. سكتت واكتفت بالسمع. كاد الحبل يفلت من يدها فارتجفت، وتشبثت يسراها بخشب الشبّاك. كان الصاوى يشد السلّة ويحييها:
ـ مساء الفل يا ست الناظرة.

عرفت صوته، فاطمأنت يدها للحبل:
ـ طماطم يا صاوى، كيلو للسلطة.
سرحت أفكارها مع الشريط مرة أخرى حتى أحست بثقل السلّة، فسحبتها بالحبل، وشكرت الصاوى:

ـ تعيش يا حاج.
ابن حلال؛ ما زال يراعى أصول العِشْرة والجوار، يترك زبائنه ويناولها ما تريد. أولاده لا يعاملونها مثله، يتجاهلون السلة كأنهم لا يرون ولا يسمعون، وإذا ألحت عليهم بالنداء صاحوا بأصوات خشنة كارهة دون أن ينظروا فوق:
ـ انزلى، خذى ما تريدين بنفسك.

لعنة الله على الخَلَف، الأبناء لا يشبهون الآباء فى شىء، ولا البنات يشبهن الأمهات. ترى لو كانت عملتها وتزوجت، ومشت فى نفس الطريق، هل كانت تضمن لنفسها حظا أحسن.
وهى تستدير أشاحت عن كل الوجوه المعلقة على الحائط. أقارب لا تعرف أغلبهم؛ شوارب وطواق وعصى بمقابض مقوسة، رجال فى عباءات وآخرون ببدل وكرافتات، بعضهم بالنظّارات وساعات الجيب ذات السلاسل.

فى الوسط صورة عائلية كبيرة بإطار مذهب، فى ركن الإطار صورة أصغر لوليم يوم زفافه على المرحومة نادية؛ أم الأولاد. طلبت من الرب الرحمة للأموات وتناست الأحياء. وقف وليم فى حلقها دون غيره، فلعنته بصوت مسموع:

ـ يلعن صباحك ومساك.
مشغول بنفسه وأولاده. آخر مرة زارها كان يبحث عن مسكن لآخر أبنائه حنا. وقتها خمنت ما فى نفسه، وقطعت عليه طريق الكلام:
ـ لا أرتاح إلا بالسكن وحدى، طول عمرى وحدى، مقطوعة من الشجرة، الآن تعودت.
وصلته الرسالة، فشرب الشاى وانصرف دون أن يفتح الموضوع. هى لم تكتف بذلك، نخسته بالكلام:
ـ الأهل يزورون موتاهم، وأنا أختك؛ البطن التى ولدتنى ولدتك، زُرْنى مرّة واحدة يا وليم، مرّة بلا غرض.
رغم انشغاله بنفسه يصعب عليها حاله. زارها مرات قبل ذلك، وجلس يلعن الدنيا والأولاد والغلاء والمشاغل التى تجعل الناس ينسون الواجب. بعد تلك المرة انقطعت رجله عن بيتها، حتى التليفون سكت ولم يرن إلا يوم عُرْس حنا:
ـ الليلة يا طنط.
ـ الليلة ؟!.. جميل أنك تذكرتنى، وفى آخر لحظة.
ثم كحّت وكلمته من خلف منديل:
ـ مبروك يا حنا، لكننى مريضة؛ انفلونزا طحنت عظامى.
ـ وحياتى يا عمتى، ضرورى.
ترددت كثيرا فى تلك الليلة. أخرجت كل ملابسها السواريه ولم تعجبها، لم تعجبها أيضا الدعوة المتأخرة، وزاد عليها أنها كحّت وعطست بجد، كأن كلامها نقل لها العدوى.
لبست وخلعت، ثم بكت من العناد. لعنت وليم الجالس فى الصورة القديمة بشورت وحمالة وقُصّة شعر، وهى خلفه بضفيرة طويلة وابتسامة تنتظر ومضة الفلاش. فى الآخر لبست، أدت الواجب فى الكنيسة ورجعت.
زارت وليم بعدها مرة واحدة، وكان ذلك بعد الزلزال.
تشرّخت جدران البيت، ودبت فيه رِجْل صاحبه بسيونى ومعه موظفون يتأبطون الملفات ويعاينون الشروخ.
احتاطت لنفسها وزارت وليم. كانت زوجته أوسة راقدة بالجلطة التى شلت ساقها اليسرى. شكت أوسة:
ـ لو كان أحد الأولاد أفلح ودخل الطب لنفعنى الآن.
ثم رسمت الصليب على وسادتها وشكرت:
ـ نحمده، لو كانت الجلطة فى الشق الأيمن لشلّت لسانى.
حملت كوكب البنت الصغيرة الباكية فى لفّتها المبلولة، قبّلتها وجلست مكانها على الكرسى:
ـ بنت من؟
ـ المحروس حنا.
ـ ربنا يحرسه، كبر وصار له خلف.
ـ كبر وحمل الهم.
وليم مشغول؛ نظارة وشبشب وبيجامة بزرار وحيد، من غرفة إلى غرفة، ومن المطبخ إلى الحمام. عاتبته:
ـ مشغول عنى يا وليم كأننا مع بعض كل يوم.
جفّف يديه، ثم قبّل رأسها وجلس:
ـ فى خاطرى كل لحظة.
ـ لو فى خاطرك اسأل.
ـ اعذريني، المشاغل كثيرة.
ـ حنا أو غيره من الأولاد يسأل.
جاوبتها أوسة:
ـ رقدْتُ بين الحياة والموت ولم يسأل عنى أحد، ربنا يساعد الجميع.
وقال وليم:
ـ حتى حنا لا أراه إلا نادرا، ننام فى بيت واحد ولا أراه، شُغْل فى الصبح والليل هو وامرأته. ربما أصادفه مرة فى الأسبوع: "سعيدة يا بابا، سعيدة يا حنا".
ضحك وحسدها:
ـ المعاش نعمة.
لحست أوسة شفتيها، وعقدت خيط الكلام من آخره:
ـ كل حىّ مشغول بحاله.
أحست كوكب بالضجر:
ـ البنت مبلولة.
تناول وليم البنت، حملها إلى السرير الصغير وغيّر اللفة. راقبته أوسة حتى انتهى وقالت له:
ـ لفتك منكوشة، لو تركتها لكوكب كانت عملتها أحسن.
لم يعجبها الكلام:
ـ كيف أعرف؛ لا حملت ولا ولدت، ولا اشتغلت دادة لأولاد غيرى.
ثم بلعت ريقها، وقالت لوليم:
ـ بيتنا سيقع، الزلزال شرخه، وبسيونى حصل على قرار بإزالته.
ـ أحسن لك؛ ستعطيك المحافظة شقة جديدة، البيت مخلّع منذ زمن.
سد عليها باب الكلام، ورد لها موقفها القديم أيام زواج حنا، واحدة بواحدة. شربت الشاى ونزلت. ودعتها أوسة من فوق السرير:
ـ مع السلامة يا ست الناظرة.
تعثرت خطواتها فى الكليم الصعيدى العتيق، وعند الباب قالت لوليم:
ـ إذا جئت لزيارتى ولم تجد البيت فى مكانه؛ ابحث عنى فى خيام الإيواء، أو فى مقابر الصدقة.
***
يقود الراعى خرافه عبر الممر الصعب أمام سرير كوكب، ظهيرة دائمة، ونبع بعيد. نظرة شاردة. يد تلامس الصخرة النافرة، وأخرى ترفرف فوق رؤوس القطيع.
تأمّلت كوكب المشهد، وهى جالسة على حافة السرير تطوى الملابس المغسولة. حاولت أن تثبت عينيها فى عينى الراعى الصالح، لكن نظرته الشاردة كانت تفلت منها.
تغيّرت الألوان واصفرّ قماش اللوحة، امتدت بقعة كبيرة ما بين اليد المرفرفة فوق الخراف وبين النبع. من أربعين سنة كان الأزرق يترقرق فى نبع الحياة تحت وهج الشمس، الآن زحفت عليه الصفرة.

من أربعين سنة رسمها يوسف وأهداها إليها.
وجه نحيل شاحب بنظارة وسيجارة، ونفس حائرة بين الدين والفن والحياة. يرسم ويحدثها عن قديسين يزورونه فى أحلامه، ورؤى لا يفهم بشاراتها إلا بعد فوات الأوان.
هى جالسة معه فى غرفة الرسم، تسمع، وتتأمل عنقه الطويل المائل. يده النحيلة تعلو وتهبط كأنه ينفض الغبار عن لوحة أزلية، فتنبثق الخطوط والأشكال والألوان بلمسات الفرشاة.
ـ برافو يا أستاذ يوسف.

يرنّ الجرس فيفترقان، هو إلى حصته وهى إلى حصتها.
مدرّس شاب فى مدرسة بنات، تشاكسه الطالبات، ولا يجد راحته إلا فى غرفة الرسم. يلوّن، ويحلم بشقة واسعة على البحر، لو فى الإسكندرية أحسن، بعيدا عن إخوته الأربعة، يملؤها بالقماش والألوان ويرسم كما يشاء.
ـ برافو يا أستاذ يوسف.
أسرَته كلمتُها فأهداها اللوحة. كان يترقبها ليريها آخر لمساته، ويسمع منها الكلمة.
ـ برافو.

كلمة منها وكلمة منه، ربطها الكلام إلى جواره فى حجرة الرسم. انتظرت أياما وشهورا، وهو قلق شارد، يطوى لوحة ويفرد أخرى، ويحدثها عن لوحة تداعب خياله، تقف فيها العذراء خلف مشربية عتيقة، ويوسف النجار إلى جوارها فى سروال داخلى قصير، وهو يحرك مروحة من ريش البط حول وجه الطفل ذى الهالة النورانية.
ـ اسكت يا يوسف؛ حرام. ينفك لسانه أمامها أحيانا، لكنه أمام الآخرين قليل الكلام. أبو بكر مدرس العربى يسميه الملاك الأخرس. كتب له يوسف لوحات مدرسية من آيات القرآن وأبيات الشعر، بهره الخط، فمال برأسه وصفّر:
ـ صحيح مصر ولاّدة.

وكان يقول لها:
ـ أنا ويوسف أهم اثنين فى المدرسة، الأدب والفن مرآة الحضارة.
ويقول له:
ـ فنان مثلك يلزمه استقرار، لو حصل تحقق المجد.
يقولها، ويغمز بعينه لكوكب كأنه فاهم.
لا هى كانت فاهمة ولا أبو بكر. ذات يوم جاء خطاب من المديرية بنقل يوسف إلى الاسكندرية، عرفت الخبر منه، انتظرت أن يضيف شيئا لكنه لم يزد. انخرس لسانها، ووقعت إبرة التريكو من يدها. كانت تنسج له كوفية من الصوف، حتى الآن لم تتمها. من أربعين سنة وهى داخل كيس بلاستيك، صوف أحمر وإبرتان ونسيج لم يكتمل.
هو كان فرحا، أخلى طرفه من المدرسة بسرعة وطار إلى الاسكندرية: "باى باى".





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة