لم أكن أعلم أن للفن تلك المقدرة العجيبة على التنبؤ بأحداث المستقبل ولا باستشراف الغد، حتى شاهدت فيلما قديما لإسماعيل ياسين دارت بعض مشاهده فى "مستشفى المجانين" وتحديدا داخل "عنبر العقلاء"، حيث أقنعه المجانين هناك أنهم هم العقلاء الوحيدون فى هذا العالم لذا فهم يحتمون داخل العنبر خوفا من عدوى الجنون خارجه.
هذا المشهد الهزلى الشهير لم يعد مضحكا كما كان بعد أن تحول " عنبر العقلاء" إلى حقيقة مؤسفة نعيش ونتعايش معها كل يوم، فقد التحق به جمهرة كبيرة من وجهاء المجتمع وعلية القوم فى مختلف التخصصات ..ستجد "العاقل" منهم يستخدم كلمتى العقل والحكمة دون قصد للمعنى الحقيقى، فالعقل داخل عنبر العقلاء الحديث لا يعنى التفكير أو الابتكار أو التحليل أو الخيال، لكنه يعنى " اعقل يا مجنون .. ولا تتهور لحسن تتعور " و"من خاف سلم"، وغيرها من العبارات المشبعة برائحة الجبن والتخاذل، أما "الحكمة" فقد تحولت داخل عقول "العقلاء" من "وضع الأمور فى نصابها" إلى "وضع الرؤوس فى الرمال " ولسنوات طويلة كان من المألوف مشاهدة سماع جوقة العقلاء وهى تنشد فى مديح حكمة القيادة السياسية تجاه أمريكا، والحكمة هنا بالطبع هى تقديم فروض الطاعة والولاء ( يعنى حد عاقل يقف قدام القطر).
والأمر لم يختلف عند وصف حالة التهتهة السياسية فى مواجهة إسرائيل فالعقلاء رأوا فيها حنكة سياسية وسعة صدر وديبلوماسية شديدة التعقل .. ثم اتسعت سعة الصدر أكثر بعد ذلك وبلغ التعقل مداه فأصبح مرادفا لسياسة "القفا العريض"، أى أن يتسع قفا السياسة المصرية لأى لطمة من أى اتجاه (..قوى عظمى ماشى.. قوى إقليمية برضه ماشى ..مش قوى خالص ما يضرش) وهكذا حتى أصبحنا مثالا عالميا للتلطيش، حتى أن "قطر" مرت من هنا بضعة مرات و"الجزائر" مؤخرا جربت حظها وتلذذت بصوت " الطرقعة" المدوى، وهنا أنبرى العقلاء يلقون باللائمة على الضحية لماذا؟
لأن الحكمة تقتضى أن يتسع قفاك للشقيق قبل العدو فالكبير عليه أن يتحمل .. يتحمل ماذا ؟ لا يجرؤ عاقل على تكملة الجملة لأن المفروض أن تكون العبارة هكذا (على الكبير أن يتحمل الإهانة وبعترة الكرامة وقلة القيمة والضرب على القفا فى سبيل ...) ثم تسأل نفسك فى حيرة فى سبيل ماذا، يمكن ان تفرط فى كرامة وطن؟ و بينما تصعب عليك الإجابة ويخنقك البكاء، سيجيئك صوت جوقة العقلاء وهى تنشد فى وقار ( وسعوا من وش العقلاء ... واء .. واء )
نادر حلاوة يكتب.."عنبر العقلاء" وسياسة "القفا العريض"
الأربعاء، 13 يناير 2010 01:17 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة