قال مواطن مصرى شاب فى اتصال تليفونى على الهواء من المملكة السعودية ببرنامج «القاهرة اليوم» وهو يكاد يبكى كرامته المذبوحة: رئيسى فى العمل يسخر منى صباح كل يوم فيقول فى حضور كل زملائى من جميع الجنسيات.. لو لم تنفذ أوامرى تماماً.. سوف أحضر لك مواطنا جزائريا!..».
ومعنى دموعه هنا على الكرامة المذبوحة واضح..
من فوائد برامج التوك شو المسائية أنها تنقل لنا بالنص والحرف عبارات طبق الأصل من واقع إنسانى يكاد يكون بعيداً بينما هو قريب جداً من مصيرنا.. عبارات صادقة لاغش أو مصلحة فيها توحى بالكثير من التأمل فى حالنا الآن.
تأملوا معى: هذا مواطن شاب دفعته ظروف صعبة فى بلده إلى السفر للعمل فى بلد شقيق حسب وصف تاريخى كلاسيكى نقرؤه منذ طفولتنا فى صحف الأهرام والأخبار والجمهورية، وعبارة خالدة ترد ببراءة فى كتب الجغرافيا ومقدمات نشرات الأخبار، لنفترض -بينى وبينكم- أن الشاب المغترب اسمه حمزة، نفترض أيضا أن عمره 28 سنة، سن الحماس والغيرة والحلم والغضب والرغبة فى التغيير، وعنده طفل اسمه أدهم على اسم أدهم الشرقاوى الذى شاهده فى فيلم يحمل سيرة رجل مصرى شجاع وقوى، فاختاره لابنه لعل وعسى، حمزة تخرج فى كلية الهندسة، درس على كبار أساتذة الهندسة فى مصر الذين ساهموا بخبراتهم وموهبتهم ومجهوداتهم الخارقة فى بناء مدن العالم العربى من المحيط إلى الخليج، كان أساتذته فى محاضرات الكلية يصفون له وزملائه بشكل عملى كيف بنوا أحياء كاملة وبيوتا جديدة ومصانع تشيد للمرة الأولى ومواقع عسكرية حصينة وقوية للأشقاء فى الجزائر وتونس وليبيا والسعودية والكويت وقطر والإمارات وخلافه.. كان حمزة وزملاؤه يشعرون بفخر وكبرياء أن أساتذتهم هم بناة العالم العربى فى عصره الذهبى الحديث، وأن مصر إن لم تكن أم الدنيا فعلى الأقل هى أم العرب لا شك، لم تتوقف مشاعر الزهو والعزة عند ذلك.. كان حمزة مدعوا مرة على العشاء عند صديق له عمه هو الدكتور عبد القادر حاتم الرجل الذى أسس الإعلام فى مصر، فحكى لهم الدكتور حاتم يومها كيف منحت مصر كفاءتها الموهوبة وخبراتها من أجل مساعدة دول عربية شقيقة فى بث أول إشارة إذاعة وأول طلة تليفزيون فى أجوائهم، وظلوا هناك حتى وقت قريب يضعون خبراتهم من أجل صناعة إعلاميين يحملون الجنسيات العربية!
فى نفس الجلسة تقريباً، حكى والد زميل لهم عن رحلته فى المساهمة بإنشاء مصانع فى عدد من دول الخليج الشقيقة طوال الأربعين عاما الماضية، بينما تكفل والد حمزة وهو معلم قدير فى رسم صورة كاملة مفرحة للدور الذى لعبه المدرس المصرى من الخمسينيات فى تعليم ملايين من الأطفال والأميين فى دول الأشقاء العرب!
بالأيام كان حمزة تقريباً يدرك من داخله كم هى كبيرة مصر التى لعبت دور الأم كثيراً فمنحت دون مقابل وفرحت دون انتظار لمن يرد لها الجميل، كما قامت باقتدار بدور الشقيقة الكبرى التى أرشدت وعلمت وساعدت وساهمت فى تربية الأبناء لعلهم يكبرون أيضا ويتحملون المسئولية ويتعلمون الاعتماد على أنفسهم، ربما كان حمزة حائرا قليلا بين: هل مصر بين العرب هى الأم أم الشقيقة؟ لكن حيرته لم تدم طويلا وهو يرى شقيقته تلعب فى البيت دور الأم، تخاف عليه إذا غاب وتذاكر له دروس ليلة الامتحان وتقتسم معه المصروف سراً إذا احتاج!
كان حمزة سعيداً بهذا التصور الذى غرسه فيه أساتذته.. أن العطاء جزء أصيل من الإنسان المصرى، يجد فيه معنى لحياته، يبتهج عن حب إذا ساعد إنسانا تجرى فى عروقه الدماء العربية، يشعر بقيمة لغته الجميلة التى يقتسمها مع وجوه تحمل نفس الملامح.. نفس المشاعر!
تشجع حمزة عند أول فرصة عمل فى الخليج.. كان يمكن أن يعمل هنا فى مصر بمرتب أقل.. فضل السفر بحثا عن اختصار لأحلامه فى المستقبل، هناك أشقاء.. وفرصة أكبر.. ومرتب أضخم، لم ينس دروس الجغرافيا ولم يسقط من الذاكرة محاضرات كبار أساتذة الهندسة، وقال إنه حتما سوف يصبح فى الغربة.. كأنه فى الوطن!
كانت الصدمة الأولى حين وضع حقيبته فى غرفة مشتركة مع زميل عمل من دولة شقيقة.. فسأله عن الراقصة دينا.. ولم يسأله عن المتحف المصرى، سأله عن عشوائيات المقطم وجريمة كانت فى شبرا وحادث القبض على مسئول كبير بتهمة فساد.. ولم يسأله عن جائزة نوبل التى حصل عليها أحمد زويل والطبعة الرابعة عشرة من كتاب أحمد بهجت ورجل المطافى الذى أنقذ سكان عمارة كاملة من الموت! لم يسأله عن بيوت الله العامرة، عن السماحة التى يتجاور فيها مسجد وكنيسة، عن مئات الأسماء التى تحرك حوادث المال والسياسة والفن والثقافة.
بمرور الوقت، كان يكتشف أشياء محيرة بالفعل، إذا فاز فريق أفريقى على فريق مصر فى كرة القدم أو السلة أو البنج بونج.. وجد زملاءه يؤلفون النكت ويوزعونها عن هزيمة الفريق المصرى، إذا تكلم عمرو أديب فى المساء عن اعتصام فى نقابة أو معركة فى مجلس الشعب.. وجد نفسه فى اليوم التالى متهما بالعشوائية والتحريض على نظام العمل، إذا فتح محمود سعد باب التبرعات لطفل مريض أو شيخ عاجز اكتشف فجأة من نظرات زملائه أن مصر بلد من المتسولين!
وهكذا..
فكر فى العودة إلى مصر.. فاكتشف أنه بالفعل لن يجد عملا يليق بموهبته وسنوات خبرته، أنجب طفله فأصبح أكثر خوفا على لقمة عيشه ومصدر رزقه، انحنى للعاصفة مقهورا وشىء فى صدره يفور، وأسئلة فى عقله تنفجر، من السبب فى كسرة العود وكسرة النفس وكسرة الكرامة؟
ينظر إلى سنوات أدهم الصغيرة.. فيزداد جنونا! يخاطبه كلام رجل لرجل: أنا أتحمل ما لاطاقة لى به، من أجلك، هزيمة الفريق المصرى من الفريق الجزائرى أدفع هنا فى الغربة ثمنها مع أننى لا أفهم فى الكرة.. يقام الجدار العازل بين مصر وغزة فأسمع بنفسى من يتهمنى بالخيانة، مع العلم أننى أصلا لا أتابع أخبار السياسة، ترفض قناة الجزيرة التفاوض على شروط مقبولة لإذاعة مبارايات بطولة أفريقية فيضحك زميلى اليمنى فى وجهى وهو يقول: طب قولوا وإحنا نلم لكم ثمنها!.
ماهذا القهر المتوقع كل يوم.. كل لحظة؟!
من السبب؟
هل هى ردود الفعل الضعيفة والمضحكة التى تصدر عن حكومتنا أمام المواقف التى ننتظر فيها مواقف أكثر حسما وقوة؟
أنا منحاز لهذا السبب، يجب أن يتغير خطاب المواجهة الدائم والممل من: نحذر من نفاد الصبر، إلى نفد رصيدنا من الصبر!
لايعقل أن يكون لدينا كل هذا الصبر الذى لاينتهى أبداً، يجب أن يكون هناك رد فعل كبير أمام الأحداث الكبيرة، على الأقل أن يعرف المواطن المصرى بوضوح لماذا سكتنا عن هذا.. ولماذا هددنا فى هذا!
يجب أن نغضب لكرامتنا فى أى مكان فى العالم، ونعلن رفضنا إذا تعامل معنا البعض على أننا حكماء ظرفاء عقلاء، لا يجب أبدا أن نمسك عصا المفاوضات من منتصفها حين تكون لدينا ضحية فى ألمانيا مثل الدكتورة مروة لها حقوق فى رقابنا جميعا! يجب ألا نخاف من العالم إذا حاولوا الضغط بورقة ممزقة مثل اضطهاد الأقباط فى مصر.. وهو أمر غير صحيح بالمرة، لأننا فى مصر نعيش معا أصدقاء ولنا مصالح ومحبة مشتركة ومتواصلة!.
لسنا على رؤوسنا بطحة!
لدينا ماض عريق نفخر به.. وحاضرعميق يجب أن ندافع عنه، وياصديقى حاتم لا تبك.. وإذا سخر من حاضرك أحد فيكفى أن تقول له إن مصر كبيرة وقوية ومتنوعة فعلاً بكل أمزجة شعبها.. فقرائها وأغنيائها، بسطائها ومثقفيها، الغاضبين منها والغاضبين عليها، ولا يوجد بلد فى العالم العربى يحتمل أن يكون فيه كل هذا الصخب والغضب والنقد السياسى الموجود فى صحفه المستقلة والمعارضة وبرامج التوك شو بكل تياراتها.. وتبقى لحظة واحدة على قيد الحياة!
مصر تبقى وتحتمل صراعا بين الأحزاب، وصداما بين المثقفين، وثورة بين رجال الأعمال والإعلام، وسخطا فى وسط البلد، وقضايا ينتهى بعضها إلى براءة وبعضها إلى إعدام، ومواجهات دينية بين تيارات متعددة لا يحتمل بلد واحد أن يحمى تيارا واحدا منها!
مصر كبيرة.. ولن تخلع ثوب أمومتها من أجل أن ترتديه مراهقة أو قليلة حيلة!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة