معصوم مرزوق

النقد المباح.. والنقض المتاح

الأربعاء، 13 يناير 2010 07:50 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هوجة وفوضى من سهام النقد تنطلق من كل اتجاه إلى كل اتجاه، وبجميع وسائل التعبير المتاحة بما فى ذلك العفريت المسمى بالحاسب الآلى.. اختلط الحابل بالنابل، وارتفع الغبار ستاراً كثيفاً توارت فيه حقيقة المعركة أو المعارك الدائرة.

تاهت الناس، والتبس عليها الحق والباطل، داستهم سنابك النخب الهائجة، صاروا لا يعرفون من أين تأتيهم الطعنة القاتلة، فهذا يأتى من اليمين وذاك يأتى من اليسار، ومن الأمام ومن الخلف، فرسان لا تعرف تحديداً من أين أتوا، يمتشقون الأقلام والأفلام والأغانى والصور، يشخبطون التواريخ، يسقطون رايات ويرفعون أخرى، بينما سقطت البوصلة فى شق من الأرض وضاع الاتجاه.

تبدو الصورة وكأن الجميع غاضبون من الجميع، والجميع يشتمون فى الجميع، والجميع مستنفرون متوفزون متحفزون، صار العدو أنا وأنت وهم، صرنا أعداء أنفسنا، وكأن عدوى الانتحار الجماعى قد انتشرت فى كل مكان، وأصبحت المعانى، حتى أجل المعانى، مثل كرة نلعب بها، ولم يفلت الدين من هذه الحمى، فكل فريق يستبيح استخدام المقدس كى يثبت دنس الفريق الآخر.

لا أظن أننى فى حاجة لإعطاء أى أمثلة، فيكفى مجرد النظر إلى آلاف السطور والبرامج التليفزيونية ومواقع المحادثات على الحاسب الآلى، يكفى متابعة سلوك الناس فى الشارع، أو متابعة التهافت فى أحاديث النخبة، فهى الفوضى، وهو الهياج والغضب، وهو التيه، وهو الانتحار المجتمعى، وسوف نجد مع ذلك من يقول متعاجباً: "تلك هى حرية التعبير فى أزهى صورها"!!

ولا شك فى أهمية النقد السياسى "للتفريق بينه وبين أنواع النقد الأخرى"، ولكن يجب أن يكون واضحاً أن هناك فارق بين المنهج العلمى لهذا النقد، وبين أسلوب استثارة عواطف المجتمع، وتعتبر الأحزاب السياسية من أهم أوعية النقد السياسى التى يفترض أن تعمل بشكل منهجى علمى لبناء قاعدة مناصرة بين الرأى العام للقضايا التى تطرحها، وهى حين تمارس هذا الدور فإنها لا تقتصر على تعرية الجوانب السلبية فى برامج الأحزاب المنافسة فقط، وإنما – وهو الأهم – ينبغى أن تضع الحلول الإيجابية لهذه السلبيات.

وأتصور أنه يجب التمييز أيضاً بين الدعاية السياسية التى تخاطب فى الأساس عواطف الناس، وربما غرائزها، وبين العمل السياسى الذى يستند إلى بناء عقلى لمفاهيم وأطروحات مختلفة، لأن الديماجوجى يتصور أنه يمارس السياسية بينما هو فى الحقيقة مجرد مهيج يمتلك قدرات خاصة للتأثير على الجمهور بشكل سطحى، لذلك فأن ما يفعله ليس له علاقة بالنقد السياسى، وإنما يلعب دوراً كبيراً فيما أطلقنا عليه الخلط والتهريج السياسى، وإذا نجح فى مسعاه فأن النتيجة لا تبتعد كثيراً عن الصورة التى حاولنا رسمها فى بداية هذا المقال.

حرية التعبير هى إحدى الحقوق الدستورية المكفولة لكل المواطنين، ولكن يحدث الخلط بين هذه الحرية وبين ما أوضحناه فيما يتعلق بالنقد السياسى باعتباره أحد أساليب العمل السياسى، فالنقد السياسى يتصور وجوده حتى فى غياب منافذ حرية التعبير، أى أن تلك الحرية ليست لازمة لوجود النقد السياسى بمعناه الصحيح، وفى نفس الوقت فقد تتوفر حرية التعبير وتغيب الممارسة الصحيحة للنقد السياسى، وبالتالى فلا مجال للاحتجاج بأن الفوضى هى نتاج مباشر لحرية التعبير، بل من المؤكد أنها إحدى نتائج إساءة استخدام هذه الحرية، أو على الأقل عدم الفهم الصحيح لها.

حرية التعبير أيضاً هى إحدى أدوات الديمقراطية، ولكنها ليست الأداة الوحيدة، وإلا كان مجرد الصراخ تحقيقاً للديمقراطية، ولا شك فى أنها أداة هامة ولكنها تقتضى توافر مجموعة من العوامل المساعدة كى تسهم بحق فى البناء الديمقراطى، وتعد الثقافة السياسية واحدة من أهم هذه العوامل، وتلك ثقافة مكتسبة وليست موهبة يتمتع بها كل إنسان بالفطرة، وهى أحد أهم وسائل العمل السياسى للأحزاب السياسية، ولكى يتم نشر هذه الثقافة بشكلها السليم، فإن تلك الأحزاب يجب أن تتوافر لديها الكوادر المدربة القادرة على التحرك بين الجماهير وفق برنامج مدروس وأجندة واضحة، فإذا لم تتحرك الأحزاب على هذا النحو، أو إذا تحركت بشكل عشوائى، فإن الثقافة السياسية تتعرض للتشويه، وينتهى الأمر إلى الفوضى.

لا شك أيضاً أن وسائل الإعلام المختلفة تلعب دوراً جوهرياً فى نشر هذه الثقافة، وهو ما ينطبق أيضاً على الفن بكافة صوره وأشكاله، باعتبار تلك الأدوات مصادر هامة للمعرفة البشرية، وهى بدورها – خاصة فى مراحل الانتقال التاريخية – تتطلب نوعاً من الترشيد الذى لا يصل إلى حد التوجيه، ونوعاً من الثقافة لأن فاقد الشىء لا يعطيه.

ويلعب العامل الاقتصادى دوره أيضاً فى توفير المناخ الملائم لحرية التعبير، فالجائع والمحتاج كما يقال غالباً ليس له صوت سوى الاستعطاف والرجاء، والثرى المستغل يسعى لتوظيف حرية التعبير كى تحمى مصالحه، فإذا كان الأثرياء - كما هى القاعدة – أقلية فى المجتمعات، فإنه يلزم توفير الضمانات اللازمة لحماية مصالح الأغلبية الصامتة، وأهم هذه الضمانات هى خلق طبقة وسطى واسعة للحفاظ على التوازن المطلوب، وتوفير الضمانات القانونية الكافية لتأمين المصالح الأساسية للفقراء، خاصة فيما يتعلق بمجالات الصحة والتعليم والمسكن والمأكل، وهذه الضمانات قد تشتمل على نظام ضرائبى تصاعدى محكم، وتشريعات تحمى حقوق العمال وصغار المستثمرين، وتضع نظاماً عادلاً للتأمين الاجتماعى وتعويض البطالة.

ويعد التعليم السليم كذلك أحد أهم عوامل تحقيق حرية التعبير بمعناها الصحيح، لأنه يصعب تصور اكتساب الجاهل للثقافة السياسية، ناهيك عن الثقافة بشكل عام، لذلك فإن التعليم يجب أن يكون حقاً من الحقوق الأساسية التى ينبغى توفرها فى المجتمع وتضمنها الدولة، باعتبار هذا الحق أحد أهم مواد العقد الاجتماعى بين السلطة والشعب، وفى هذا الصدد من المهم أن نحذر تلك الأصوات التى تصاعدت بالاتهامات ضد مجانية التعليم، فرغم ما يبدو من وجاهة بعض الحجج المستخدمة، فأنها فى التحليل الأخير تتناقض وبشكل جوهرى مع تطور المجتمع كما نراه، وذلك الموضوع على أى حال يخرج عن نطاق هذا المقال، وإنما أردت فقط التنويه إليه.

أن الصورة التى تبدو الآن وكأنها أجزاء مبعثرة متناقضة ليست شراً مطلقاً، فلا يمكن إنكار أنها أسهمت فى تحريك الفكر "وليس تحريره أو تنويره"، كما أن هناك بعض الظواهر الإيجابية التى تفتح بعض نوافذ الأمل، منها مثلاً بعض الأقلام الجادة، خاصة بين الشباب الذين ينهض بعضهم حالياً بجهد علمى مدروس فى نشر الثقافة السياسية باستخدام إمكانيات الحاسب الآلى، بل ويمكن القول إن هناك إرادة كامنة لدى الشعب المصرى كله فى الخروج من دائرة التيه، وذلك ممكن، بل وحتمى إذا صدق عزم النخب، آباء الأمة.

أريد أن أقول أخيراً أن هذه السطور ليست إلا نقضاً لظاهرة النقد السداح مداح "وهو وصف الأستاذ أحمد بهاء الدين للإنفتاح"، وهو نقض تتيحه ظروف القضية التى ننظرها ولا تتعداه، كما أنه لا يعنى إهداراً للحكم الأصلى، وإنما مجرد إعادته لمحكمة أول درجة لإعادة النظر فيه، فلا يمكن إسقاط قضية النقد السياسى، أو قضية حرية التعبير، وإنما من الضرورى النظر الدقيق فى الحيثيات التى حاولنا إبراز بعض جوانبها.

عضو اتحاد الكتاب المصرى








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة