أشعر بالملل عندما أقرأ لكاتب يكتب كل مقالته عن موضوع واحد فقط لا غير ويستمر عليه إلى ما شاء الله، رغم رؤية البعض بل ونصيحتهم له بالتغيير، فالتغيير هواء جديد يلطف أجواء ويضفى جمالاً حزينًا ومبكيًا على "كارثة" قد تكون الأخيرة، وهو أيضًا غير مصطنع، إذا جاء من القلب بالرغبة فى العمل معًا وبالأمل فى الجديد.
ومن ناحية أخرى أشعر بالخوف عندما يكون الموضوع سياسى مقولب فى إطار أيديولوجى (عقائدى) جامد يلتزم الكاتب به ويدق على أوتاره النشاز المرة بعد المرة ولا يخرج عنه، كما لو كان الخروج عنه خروجًا عن تقليد رجولى التزم به، وهذا هو عين الخطأ، خاصة عندما يكون الموضوع فى نظر الكثير أو الغالبية مختلقا ومبالغا فيه وله خلفية- كما المعنى فى بطن الشاعر- قد تنتج عنه مضاعفات غير حميدة تؤدى بالبعض أو بالجميع إلى جحيم دموى وبئس المصير. ولكم كان الكاتب الفلسطينى الكبير (حسن البطل) شجاعًا بخوضه فى معركة أدبية لم يكن الخاسر فيها، عندما نصح عموم الفلسطينيين فى الداخل والخارج والشتات بالتخلى عن تقديس دور الضحية الأبدية والوحيدة فى هذا العالم، فالكاتب المتمرس على الشتات الغير مكيف والمناضل بقلمه والراحل معه إلى أركان الدنيا الأربع ومن ملجأ إلى ملجأ قد زهد عبادة هذا الدور وقدسيته ولا يريده معبودًا لا لنفسه ولا لهم، بعد أن أصبح هذا هو دور الفلسطينى فقط لا غير وعبر كل التاريخ المعاصر، حتى أصبح "أفيونة" الشعب، ولكن (البطل) يريد أن يراهم يلعبون دورًا جديدًا، دور "البطل"، أو يجربونه على الأقل - الصامد لا المتزعزع والمعتز بنفسه لا المعوز والقائم بنفسه لا ذا الحاجة والمتلقى الشريد- فهم بالفعل أبطال ويستحقون هذا الدور، خاصة وأن الدور الأدبى محبط لا لهم فقط بل للأجيال التى فشلنا جميعًا فى تربيتها على العزة والكرامة، وأيضًا على السلام وآدابه، وهى كثيرة.
فمن آداب السلام وقواعده أن يكون داخليا أولاً ونابعًا من القلب، لا من عيون الأمانى على مثال الحلم بالثراء مع سلة البيض، فسلامى مع نفسى يسهل سلامى مع الغير والجار، وهذا بدوره له قاعدة أسماها إخواننا الفلسطينيون بأنسنة الصراع، بمعنى أن ينظر كل طرف صراع لشريكه فيه كإنسان .. نعم، كإنسان، لا كحيوان ولا كغول ولا كمتأسلم ولا كوهابى بدوى حقير.
وأنسنة الصراع تستدعى وبالضرورة الاعتراف بالغير كما هم لا كما يجب أن يكونوا عليه، فالإنسان ليس فقط هيئة لاغير تمشى على قدمين بل فكر يجب أن يُسمع وأن يحترم، حتى ولو كان هذا الفكر أو الرأى لا يتمشى مع أهواء السامعين، فالفكرة والرأى تقابل بالفكرة والرأى لا بالسلاح، فالسلاح وسيلة ضعيف الفكرة والرأى، وهو الغصب والإكراه على ما يجب أن يكون عليه الإنسان، وهذا هو الخطأ، الذى يوصل إلى الطريق المسدود، طريق الفتنة.
وفى النهاية أعود إلى الموضوع الواحد فقط لا غير وهو المتعلق بتقديس دور الضحية وترويجها فى الخارج، فهى بهذا الشكل المعتم تحتاج إلى حقيقة كاملة لا لنصفها، وكلاهما نسبى ومبالغ فيه وقد يكون مختلقا وبذلك تكون مستحيلة فى غياب الرأى والفكر الآخر، لتكون القاعدة الأخيرة للسلام هى الحوار لوضع النصف الغائب للحقيقة بجوار النصف الحاضر لتظهر الصورة كاملة مكتملة دون رتوش، مع اشتراط حضور جمهور واع لا جمهور يأتى لرؤية النصف الوحيد لحقيقة مجنى عليها برأى الطرفين، كما أنبئنا الكاتب الشاب (جمال جرجس المزاحم) منذ أسبوعين فى مقاله عن حديثه مع نيافة البابا شنودة الثالث، بطريرك الإسكندرية وسائر المشرق، والذى أتمنى له الصحة والعمر المديد، وهو الواعى بأن الحقيقة معتد عليها من الطرفين لمعرفتهما بالنصف العائد لكل منهما فقط لا غير، إذ يقول، "النصف الآخر الذى يشكو، ربما يقدم أحيانا نصف الحقيقة، حيث يبدو معتديا عليه، وغالبا لا يقدم النصف الآخر وهو سبب هذا الاعتداء، وهكذا لا يعطى صورة كاملة عن الحقيقة".
وأخيرًا فإذا كنا نريد أن نصل إلى السلام بيننا وهو المطلوب الآن- ومنه إلى الحقيقة "النسبية"- فعلينا الرجوع إلى تجارب عقلائنا فى الداخل والخارج والشتات.
* محاضر فى العلوم السياسية فى جامعة انسبروك".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة