تعلمت فى وطنى أن اللغة المنضبطة تعنى تفكيرا سليما.. أما فى الجزائر فاللغة غير منضبطة – فرنسية كانت أو عربية – دون اتهام لأحد.. هذه بداية لا بد منها قبل الدخول فى الموضوع.
خبرت فى مصر.. أن التعثر بحجر قد يدفعك للسقوط على وجهك.. فتحدث إصابات أو لا تحدث.. وقد يدفعك للإتيان بحركات بهلوانية محاولا التغلب على فكرة السقوط.. وقد تجد دون توقع من يمد يدا لنجدتك.. فيكفيك شر السقوط.. تفلح محاولته.. أو تسقطا معا.. وفى كل الأحوال فالمتعثرون دوما هم الذين يتحركون صوب الأمام.. وتكرار التعثر يمنحهم مع الوقت قدرة على الثبات.. فتقل مرات السقوط أو تنعدم.. وتزداد أعداد الأيدى الممدودة للمساعدة.. تلك هى الشخصية المصرية.. مهما بدا عليها ظاهراً ما يخالف ذلك.. وتلك مقدمة لابد منها لأن الحديث القادم مختلف تماما!!
(1)
فى مايو الماضى.. زرت العاصمة الجزائرية للمرة الأولى.. أمضيت بها 10 أيام ضيفة على مهرجان المسرح الوطنى.. وغادرت أحمل داخلى قدرا كبيراً من الدهشة.. لأن الصورة كانت بالنسبة لى مفاجئة.. لم أعتدها فى وطنى – والقياس مع الفارق – البشر ينظرون دائما للوراء!! على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وانتماءاتهم.. من الوهلة الأولى.. فى مطار هوارى بومدين.. اعتذر السائق عن القليل القليل من عربية غير واضحة المعالم يتحدثها.. قليل من العربية.. قليل من لهجة جزائرية.. كثير من الفرنسية فى جملة واحدة.. تشعر معها أنك غرقت فى بحر الرمال العظيم!!.. الأكثر دهشة كان قوله: أنت تعلمين طبعاً أن الاستعمار الفرنسى قضى على اللغة العربية!!.. الشاب الذى لا يتجاوز عمره 28 عاماً.. يتحدث عن استعمار انتهى فعليا من الجزائر منذ أكثر من 47 عاما.. وطن عمره 47 عاما.. لم يستطع بكل ثروته – التى يفاخر بها – ولا حديثه عن الكرامة والنضال الذى يكرره دائما فى كل مناسبة، وأحيانا بدون مناسبة.. أن يتجاوز سنوات الاستعمار.. الذى أجبره على استخدام الفرنسية.. فصار استخدامها بعد الاستقلال ممارسة نوع من السادية.. واقعون فى غرام الفرنسية.. حريصون على فرنسا.. تماما كحرصهم على النظر طوال الوقت للوراء!!
(2)
الحديث عن المسرح فى الجزائر ينحو بك دائما إلى الحديث عن الثورة الجزائرية فى القرن الماضى.. المسرح الجزائرى القديم توأم الثورة إن جاز القول.. أو كلاهما ولد من رحم الآخر.. وهنا يصبح من الصعب الفصل بين الأدوار التى قامت بها أسماء كبيرة مثل مصطفى كاتب ومحيى الدين باشطرزى.. وهما من أباء المسرح الجزائرى.. ويصبح هذا السؤال ضرورة.. هل هم فنانون أم ثوار؟! والجمهور الجزائرى الذى انصرف عن عروض المسرح المصرية عام 1921 – وقت الاستعمار – كان متجها بروحه صوب فرنسا.. كما ذكر د. على الراعى فى كتابه "المسرح العربى".. لم يكترث لجورج أبيض وفرقته التى طافت المغرب العربى فانبهر بها جمهوره.. معشوقته فرنسا.. التى أجبرته على الفرنسية.. فصار أسيرا لها بإصرار!!
سبعة وأربعون عاما هى عمر الدولة الجزائرية.. و47 عاما هى المسافة التى تفصل الجزائريين الآن عن آخر ثوار تلك المرحلة.. تلك المسافة لم تكن شيئا فى اليقين الجمعى الجزائرى.. الرغبة فى الحياة داخل عباءة الثورة كانت أقوى.. فهى المظلة المثلى لهم فى هذا العالم الذى لا يرغبون – وربما لا يستطيعون – الانخراط ضمن بشره المتواصل فى البرية.. الاكتفاء – غير المبرر – بأنفسهم وثورتهم وثوارهم.. جعلهم يولون وجوههم للخلف بإصرار شديد.. حتى لو بدت أجسادهم وكأنها تسير للأمام!!..
(3)
"طالت فترة البناء.. لأننا كلما أخذنا خطوة للأمام نتراجع خطوات إلى الوراء.. مررنا بأزمة طويلة انعكست أسئلتها على كل جوانب الحياة.. الأمنى والسياسى والثقافى والأخلاقى والاجتماعى" تلك كانت عبارة وزير الإعلام الجزائرى عز الدين ميهوبى فى مكتبه بالدور الثامن فى البناية المطلة على مقام الشهيد.. أحد علامات العاصمة المميزة.. لم أفهم أن كان الرجل ابن جيل التحرير أم أنه مشدود إلى الاستعمار بكل سوآته!!.. محاولتى للفهم جذبتنى لمقولة حيدر بن دريهم أحد رموزهم.. الذى انشق عن الأغلبية راغباً فى تشكيل حزب أقلية قال: "نحن أكبر أمة استهلكت شعارات كاذبة فى التاريخ".. تلك المقولة وثقت فى حوار مطول له مع الكاتب الصحفى نصر القفاص.. نشر ضمن كتابه "الدائرة المغلقة" الصادر عن دار أنيب الجزائرية عام 2004!!
فالجزائرى لا يمل من تذكير نفسه طوال الوقت.. بأنه كان هناك استعمار.. وأنه المسئول عن كل مشكلات الجزائر.. حديثه دائما للآخر حديث من طرف واحد عن مأساته مع الاستعمار.. وليس مسموحا لك فى اليقين الجزائرى أن تناقش هذا الأمر.. والدول العربية التى كانت مستعمرة.. لا تجد فيها من يحدثك – وعمره عشرون أو ثلاثون عاما – عن استعمار انتهى وجوده الفعلى منذ ما يقرب من 50 عاما.. فكرة النظر الدائم للوراء بقدر ما تدهشنى.. تدفعنى للتساؤل هل من ينظر باستمرار للوراء قادر فى ذات الوقت على رؤية المستقبل؟!.. هل المسألة كلها مجرد شماعة استمرأها الجزائريون.. أم أنهم وجدوا الاستعمار داخلهم.. فى أرحام أمهاتهم رغم أنه رحل!! تلك هى الشخصية الجزائرية..
(4)
وعندما قال لى الشيخ محمد بن قطاف مدير المسرح الوطنى إن فرنسا ليست كأى استعمار آخر.. أدركت أنه لا يعرف – أو لا يأبه – شيئاً عما فعله الاستعمار الفرنسى فى فيتنام مثلا.. قال: فرنسا استعمرت البشر.. أصبحنا فرنسيين قسراً.. مصر استعمرت 70 عاما، لكن كان لها جمعياتها ونواديها ومثقفيها وهيئاتها وأحزابها.. وملكها.. نحن لا.. كانت هناك شواطئ وضواحى وشوارع محظور دخولها على الكلاب والجزائريين.. لكنه لم يقل أن الجزائر كدولة استقبلتها الكرة الأرضية قبل 47 عاما فقط.. لم يكن هناك قبلها ما يسمى بدولة الجزائر.. وقد ظلت الفرنسية سيدة الموقف حتى الآن، فالعلاقة بين الجزائر وفرنسا هى علاقة "لا أحبك ولا أقدر على بعدك" من هنا نفهم الشخصية الجزائرية!!
• كاتبة صحفية بالأهرام
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مراد عماري
لا نحكم على هوية الشخص من لهجته
السلام عليكم مهما اتسعت رقعة الدارجة على لسان الجزائري؛ فإنه يرفع الفاعل و ينصب المفعول به إذا كتب. على عكس جيل الاهرام الاخير. الحروف تخرج من جوف الجزائري عربية كانت ام اعجمية في الوقت الذي يصارع شعبك حرفي القاف والجيم. دعك من سائق التاكسي في كل مكان.... اما الثورة فهي الميراث الوحيد وسط دولة عكفت على سرقة مال الجزائري وهو في جوف والدته. والسلام