فى العام 1806 وبناء على رغبة الإمبراطور الفرنسى نابليون بونابرت اجتمع 71 من حاخامات وشخصيات عامة يهودية. فى هذا الاجتماع رحب نابليون بممثلى يهود بلاده، مؤكدا لهم أن مبادئ الجمهورية الفرنسية الجديدة تضمن لليهودى مثله مثل الفرنسى الكاثوليكى حق المواطنة بغض النظر عن عقيدته الدينية، غير أن الإمبراطور أراد ضمانات من رجالات اليهود حول تعاليم ديانتهم، وعما إن كانت تتعارض هذه التعاليم مع مبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة: الحرية، المساواة والأخوة، وكذلك مع علمانية الجمهورية الفرنسية وعقديتها السياسية فى فصل الدين عن الدولة. توجه نابليون لضيوفه بلائحة محددة تتضمن اثنى عشرة استفسار عن علاقة الشريعة اليهودية، الهلاخا، بالقوانين المدنية الفرنسية، فأراد الإمبراطور أن يعرف على سبيل المثال، أن كانت الشريعة اليهودية تسمح بالزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود، وما موقف اليهودية من تعدد الزوجات؟ وهل يمكن لليهودى التوفيق بين انتمائه الدينى لليهودية وانتمائه الوطنى لفرنسا؟ لم تأت اللائحة النابليونية من فراغ، فقد كان الإمبراطور متابع للنقاشات والحورات الساخنة فى المجتمع الفرنسى فى بداية القرن التاسع عشر حول إمكانية استيعاب وانصهار اليهود فى بوتقة المجتمع الفرنسى، بل كان نابليون على علم ودراية بتحفظ، بل وعداء قطاعات كبيرة من الشارع الفرنسى لليهود وديانتهم، وكان الإمبراطور يعلم أيضا ما هو مألوف ومعروف من الأحكام المسبقة عن اليهود وكيف أن شريعتهم لا تبيح الزواج المختلط، وتسمح بتعدد الزوجات، بل ولا تعترف بالهويات القومية وتبيح لليهودى فقط الانتماء لديانته. نعم كان نابليون يعلم أن تعاليم الشريعة اليهودية تتعارض مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، إلا أنه أراد أن يلقى بالكرة فى ملعب الحاخامات واضعا الجالية اليهودية فى ورطة بين تراثهم الدينى من جهة وإقامتهم فى دولة علمانية، يفصل فيها الدين عن الدولة من جهه أخرى.
واحتار اليهود من إستراتيجية نابليون، فهو من ناحية يقدم لهم وعلى طبق من ذهب ما يرغبون فيه، أى الانصهار فى الدولة الفرنسية الحديثة كمواطنين لهم ما للجميع من حقوق وعليهم ما على الجميع من واجبات. إلا أن نابليون ومن ناحية أخرى يطرح عليهم استفسارات فى خصوصيات عقيدتهم اليهودية وكيفية تواؤمها مع الدولة المدنية الحديثة. فهل لليهود أن يرفضوا العرض النابليونى ويفضلون التمسك بأحكام شريعتهم وعدم الانصياع للقوانين المدنية، مما قد يعرضهم للاضهاد والعيش على هامش المجتمع الفرنسى فى انعزالية الجيتو، أم يرضوا بعرض الإمبراطور، فيبتعدوا عن شريعتهم ويكونون ممن اشترى الآخرة بالحياة الدنيا، فيُفتح لهم باب المساواة والعدالة الاجتماعية. احتار ممثلو اليهود، ولعل نابليون شعر بهذه الحيرة، فأنهى الاجتماع، معطيا قادة اليهود الكافى من الوقت، لتدبر أمرهم والعودة إليه. وما إن خرج رؤساء وممثلو الطائفة اليهودية من حضرة الإمبراطور، إلا وغلبتهم الفرقة والخصام، فمنهم من أيد نابليون على التعميم، ورأى أن الضرورة تحتم على اليهود بقبول ما ذهب إليه نابليون، وفريق آخر، رأى فى الأمبراطور الفرنسى شيطانا رجيما، وعدوا لله حميم، يسعى لعلمنة اليهود واجتثاثهم تراثهم الدينى، موصيا برفض عرض الإمبراطور والتمسك بتعاليم شريعة الآباء والأجداد.
وانقسم اليهود إلى إصلاحى مؤيد للتخلى عن بعض أحكام الشرع اليهودى وبين أرثوذكسى متمسك بدينه ورافض للتخلى عن الشريعة وأحكامها للقوانين الوضعية. وكادت الجاليات اليهودية أن تهوى فى صدام فكرى بين أهل الإصلاح وأهل الأرثوذكسية، إلا أن العقلاء من اليهود نجحوا فى إيجاد حل وسط، فبعد البحث والتنقيب والعودة إلى كتب الفقه والشريعة اليهودية، أعادوا اكتشاف إحدى القواعد الفقهية فى الديانة اليهودية للبت فى تنظيم حياة اليهود كأقلية فى ظل حكم أغلبية غير يهودية: دينا داملخوتا دينا، وهى عبارة من اللغة الآرامية والتى كان يستخدمها الكثير من الحاخامات الأوائل للتدليل على قوة علمهم وطلاقة لسانهم، وتعنى أن "قانون الدولة هو القانون" وقد استقر الأمر بين ممثلى اليهود على اتباع هذه القاعدة الفقهية واعتبار أن للدولة الفرنسية السيادة التشريعية، ولم تكن هذه بالخطوة السهلة على اليهود، فكان منهم من أصر على الرفض، وكان فريق آخر يرى أن يتبع فى بيته تعاليم الشريعة وفى الشارع قوانين الدولة الفرنسية، وفريق ثالث، رأى فى البعد عن الشريعة اليهودية مسلكا وتذكرة دخول إلى المجتمع الفرنسى والتفاعل معه، فتخلى عن تعاليم الشريعة وانصهر فى العلمانية الفرنسية.
وما أشبه اليوم بالبارحة: فمسلمو أوروبا اليوم لا يختلف حالهم عن حال يهود نابليون بالأمس. ألم تغلب الأحكام المسبقة على الشارع الاوربى اليوم فى نظرته للاسلام والمسلمين؟ ألم ينفر أهالى لندن وباريس وبرلين وبروكسل من مظهر وسلوك وعادات وتقاليد المسلمين الدينية؟ ألم يتأفف زعماء أوروبا وساستها من أحكام الشريعة الإسلامية، فهذا هو الرئيس الفرنسى ساركوزى يطالب مسلمين بلاده بالتخلى عن بعض عاداتهم الدينية والعمل على التأقلم مع تعاليم فرنسا العلمانية؟ ألم تتوجه الحكومة الألمانية بإجماع أحزابها إلى مسلمى ألمانيا بالتخلى عن الحدود الشرعية، حد الزناة وبتر اليد وعقوبة الإعدام والبحث عن شكل للشريعة يتوافق مع أحكام الدستور الألماني؟ ألا تنظر أوروبا خاصة والغرب عامة للمسلمين بنظرة الشك والحيطة تارة، والخوف والتوجس تارة أخرى. وألم ينقسم المسلمون فى أوروبا إلى جماعات وأحزاب، فمنهم من ينادى بالتمسك بالشريعة على الإطلاق كالجماعات السلفية ومنهم من ينادى بفقة للأقليات كالشيخ طه جابر العلوانى رئيس المجلس الفقهى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وبدعم من الشيخ يوسف القرضاوى رئيس المجلس الأوروبى للإفتاء والبحوث والذى يدعو للبث فى أمور المسلمين طبقا لضروريات حاجتهم الأوروبية، وألم يؤكد فريق ثالث من علماء وأساتذه مسلمين ضرورة الحاجة إلى "إسلام أوروبى" مثل البروفيسور طارق رمضان حفيد الشيخ حسن البنا والمقيم فى سويسرا ومثل المفكر السورى بسام طيبى فى الولايات المتحدة الأمريكية؟ أو إلى تصالح وتوافق أحكام الشرع الإسلامى مع القوانين والتشريعات الغربية مثل أستاذ الفقه الإسلامى خالد أبو الفضل بجامعة كاليفورنيا الأمريكية.
نعم إن المقارنة بين وضع اليهود بالأمس وحال مسلمى اليوم قد يبدو فى الشارع المصرى والعربى أمرا غريبا، إلا أنه فى الغرب ليس بالأمر الجديد، فهو شىء يعرفه القاصى والدانى فى السياق الأوروأمريكى.
وهى مقارنه قد يراها القارئ المصرى شيئاً محموداً، وقد يراه آخر أمرا منكوراً. إلا أن المقارنة بين تجربة اليهود فى الماضى وتجربة المسلمين فى الحاضر والحكم عليها ليست ما يرمى إليه مقالنا هذا. وإنما الهدف هو توضيح آثار ونتائج هذه المقارنة؟ فقد شهدت الأكاديميات الغربية فى السنوات القليلة الماضية اهتماما أوروبيا خاصا وغربى عامة، بدراسة المقارنة بين التجربة اليهودية والتجربة العربية الإسلامية مع أوروبا، فهناك أستاذة الدراسات اليهودية بأحد جامعات الصفوة الأمريكية دورتموث كوليج شوشانا هيشيل، ابنه الفيلسوف اليهودى البولندى الشهير إبراهام يوشع هيشيل (1972-1929) والتى خصصت حيزا كبيرا من أبحاثها فى دراسة التداخل الفكرى بين المسلمين واليهود فى السياق الأوروبى وتعد الآن كتابا عن دور المستشرقين اليهود فى تاريخ أوروبا الأكاديمى، وهناك أيضا بروفيسور مارك كوهين أستاذ الدراسات الشرق أوسطية فى جامعة برنستون، إحدى أعرق الجامعات الأمريكية، وتركيزه فى دراسة الأبعاد التاريخية للعلاقات اليهود مع الإسلام والمسيحية.
وإذا ما انتقلنا إلى السياق الأوروبى، فهناك قسم الدراسات اليهودية تحت إشراف أستاذ التاريخ فى جامعة ميونيخ الألمانية ميشيل برينر، والذى يبذل قصارى جهده لتدريس التراث التاريخى للتداخل الإسلامى اليهودى، وهو أمر جديد فى الإطار الأكاديمى الألمانى، الذى يفصل بين دراسة اليهوديات والعلوم الإسلامية، وفى هذا السياق أيضا لا ننسى مجهودات مؤسسة الزمالة ببرلين، أحد أكبر معاقل البحث الأكاديمى، ليس فقط فى ألمانيا، بل فى أوربا والعالم، هناك تبذل أستاذة الاستشراق الألمانية المعروفة بصداقتها للأوساط العربية فى ألمانيا والعالم العربى، أنجليكا نويفيرت، مجهودات كبيرة فى إطار مشروع يهدف إلى إعادة قراءة التراث اليهودى والإسلامى.
ويمكننى الاسترسال فى سرد الاهتمام الأوروبى والأمريكى بالتداخل اليهودى والإسلامى، إلا إننى أود أن أتطرق إلى أحد أهم الأسئلة التى قد يطرحها القارئ الكريم، والخاصة بدواعى وأسباب الاهتمام الأوروبى بمثل هذه الدراسات؟ أعلم أن الكثير الكثير من المثقفين والباحثين قد ينظرون إلى مثل هذه المشاريع بعين الشك والريبة، وهذا حقهم، بل أزيد على ذلك معترفا، بأن الاهتمام، أى اهتمام بأمر ما، حتى وإن كان اهتماما أكاديميا، لا يخلو من البعد السياسى، قد يكون لهذه الباحثة الأمريكية، أو الباحث الأوربى، أجندة سياسية، غير أن الغرب ليس جسداً صلداً واحداً، بل هو أنظومة حضارية متنوعة تحكمها مصالح شتى، وعليه أرى أن السبب الأقرب للعقل فى إعادة دراسة التراث الإسلامى وتداخلاته مع اليهود واليهودية إنما يهدف إلى البحث والتنقيب عن قراءات إسلامية تتوافق مع قوانين وسنن أوروبا ذات الطبيعة العلمانية، وهو أمر جم حساس لنا كمسلمين وعليه قد تأخذنا العزة فى الدين ونختلف مع هذه الأجندة أو يسعى البعض منا وراء الإصلاح والتجديد ويتفق معها. إلا أن على الاختلاف فى تناول قضايانا الحساسة ألا يعمى أعيننا على المسئولية التى تلقى على عاتقنا، فنقاطع ونعترض، ونتهم وندين. لا علينا أن نتفاعل مع العالم من حولنا، ونرى فى دراسة الآخر تحديا إيجابيا، فنشارك ونحاور، ولا نترك العالم من حولنا يتشكل ويتبلور فى غيابنا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة