لا يملك الطاقم السياسى فى لبنان الكثير من البدائل لتحريك جمود ما بعد الانتخابات الأخيرة. فالحراك محكوم بالضوابط الإقليمية التى فرضتها تحالفات الفرقاء المتجاذبين فى ما بينهم. وكل ما هو متاح الآن، يتمثل باستعراض هذه الأطراف مواهبها فى ابتداع مشكلات جانبية، ريثما تُطلق الصافرات الخارجية وينبرى المتبارون لتشكيل الحكومة العتيدة والانطلاق فى مباراة إدارة البلاد.
غير أن الفراغ الفعلى – وإن ألبس ثوب حراك شكلى – يبقى الساحة الأمثل لاستدراج "حلول" من خارج السياق القائم. فالسياق حتى الآن يستند إلى "ضرورة" الدوران فى حلقة مفرغة ريثما تعدل موازين الخارج، أو تترجم كما هى إقليمياً، أو يتم إسقاطها على الواقع اللبنانى منفرداً.
فى الحالة الأولى، تبقى البلاد فى حال مراوحة معلقة على أحداث دراماتيكية (حروب إقليمية أو مشكلات داخلية لأى من الأنظمة المعنية). وفى الثانية تكون المفاوضات المتمادية (بين واشنطن وطهران، وبين معسكرى الاعتدال والممانعة) فيصلاً فى رسم لوحة المنطقة ككل، حيث يتم ربط ملفات المنطقة بإحكام، بما يزيد من خيارات المقايضة ويفيد فى تحديد أوضح لحسابات الربح والخسارة فى هذه البقعة مقابل تلك. أما فى الثالثة، فيُعزل لبنان مؤقتاً عن تجاذبات محيطه، ويتم التعاطى معه كساحة استقرار مرحلى ذات مخزون تفجيرى كامن – أو قل احتياطى.
هذا فى السياق الراهن للأحداث. الموقف إذاً، رهن حال انتظارية متعددة الاحتمالات. غير أننا فى ما ذكرناه، عالجنا جانباً من الصورة فقط. فلبنان ليس سوى إحدى ساحات اللعب. والمقايضات إذ تجرى بين ساحة وأخرى، تأخذ فى الاعتبار الحاجة إلى تحريك المياه الراكدة من أجل خلط الأوراق، أو الضغط باتجاه معين، أو لجم صيرورة ما.
وحتى الآن، تبدو الأدوات السياسية عاجزة عن إحداث خلط جدى للأوراق. فلا خروج وليد جنبلاط عن قوى الرابع عشر من آذار وتموضعه فى خانة شبه مستقلة، أحدث هزة ضاربة للتوازن القائم، ولا نتائج الانتخابات التى صبت لصالح هذه القوى، والسابقة لإعادة التموضع تلك، كسرت شوكة المعارضة وجمهورها. اللعبة السياسية إذاً بدت فاقدة القدرة على صياغة الواقع السياسى. والسبب: الضوابط التى فرضها تقاطع دول الجوار وتضاربها، وهى التى تملك فى يدها عناصر الدبلوماسية الدولية والمال والأمن.
وإن كان الحراك الدبلوماسى الضاغط وكثافة المال المستخدم، عنصرين ميزا العام المنصرم، فإن الأمن باستتبابه النسبى بدا غائباً عن المعادلة! وهنا تأتى خطورة اللعب فى الفراغ، أى بعد استنفاذ وسائل السياسة التقليدية. وعطفاً على ما سبق وذكرناه، تبدو الخطورة أكثر إلحاحاً إذا ما أخذنا فى الاعتبار أن لبنان ما هو إلا إحدى رقع المواجهة، وأنه أثبت غير مرة صلاحه للعب دور صندوق البريد لصالح الأطراف جمعاء.
فالمراسلات عبر لبنان وإن خفت فى الآونة الأخيرة، إلا أنها عادت لتطل برأسها عبر إحدى الساحات الساخنة الأخرى. اللعب هذه المرة يجرى فى العراق. والأمن كما جرت العادة عند وصول السياسة إلى حائط مسدود، هو الكرة المتقاذفة باتجاه هذا المرمى أو ذاك. وما التلويح باستنساخ نموذج المحكمة الدولية عبر بغداد هذه المرة، كسبيل للى ذراع اللاعب السورى، إلا رفعاً لبطاقة صفراء، قد يتم إلحاقها بأخرى حمراء، فى حال لم تظهر دمشق تجاوباً مع مطالب تمتد من فلسطين ولا تقف عند حدود بلاد الرافدين. والبطاقة الحمراء، سواء فعلت فعلها أو لم تغير النتيجة، قد تدفع فريقاً ما إلى اللعب فى ساحة مغايرة، تعويضاً منه عن ضعف الأداء... فى الساحة الأولى.
لبنان إذاً ساحة بديلة. وفى لبنان، ثمة لاعبون محليون يتقاذفون كرة ملغومة. فمحطة تشكيل الحكومة بما تعنيه من صياغة توزانات المرحلة المقبلة، وبما تعكسه من هشاشة فى الوضع السياسى وقابلية للتوتير، تشبه محطات شهدت اغتيال عدد من الشخصيات خلال الأعوام الماضية. وللتذكير، فإن عملية اغتيال النائب جبران توينى تزامنت مع جدل كامن حول صلاحيات لجنة التحقيق الدولية فى جريمة اغتيال الحريرى، وهى فجرت هذا الجدل بأن دفعت قوى الأكثرية إلى الحسم فى طلب إنشاء محكمة ذات طابع دولى.
واستهداف وزير الصناعة بيار الجميل جاء قبيل استعداد المعارضة اللبنانية لتسيير تظاهرات ضخمة داعية لإسقاط الحكومة. واغتيال النائب وليد عيدو وقع أثناء معارك الجيش اللبنانى مع تنظيم فتح الإسلام، وما رافقها من هشاشة أمنية واشتباك سياسى حول سبل التعاطى مع ظاهرة فتح الإسلام. فيما أتى تفجير سيارة النائب أنطوان غانم قبل ستة أيام من الموعد الدستورى المفترض لانتخاب رئيس الجمهورية، وفى خضم جدل متفاقم حول النصاب النيابى المطلوب لصحة عملية الانتخاب.
من حيث المبدأ، لا يحتاج الفراغ إلى عناصر مساعدة على استدراج حلول من خارج سياق الإدارة السلمية للأزمة. لكن قليلاً من الصخب السياسى والهياج الإعلامى قد يسهم فى تمهيد المسرح لإشعال فتيل ما، خفض الصوت مطلوب، وإذا كان اللعب فى الوقت الضائع شر لا بد منه، فاللعب بهدوء حاجة ملحة، حتى لا يختلط وهم تسجيل أهداف سياسية "قاتلة"، بتسهيل إسقاط أهداف أمنية... قتيلة!
* إعلامى لبنانى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة