فى متاهات الهوى قد تتمزق النفس أو تتوه، فلا تدرى أى طريق تسلك، ولا تعرف أى سبيل تريد، ثم تقضى النفس أيامها فى قلق واضطراب، فتصبح وتمسى كريشة فى مهب ريح عاتية تتقاذفها موجاتها الهائجة، فأنى لنفس ذاك شأنها أن تعرف الحق أو تأنس به؟.
ولذا خلق الله من أيام الدهر أياماً، هى نفحات، وهبات، أو بالأحرى محطات إيمانية نُصبَ ديوانها بحكمة بالغة على طريق الحياة، كى يتزود المرء منها بوقود الإيمان والتقوى بحيث يتمكن من مواصلة السفر الطويل {يا أبا ذر..أحكم السفينة فإن البحر عميق، واستكثر الزاد فإن السفر طويل، وخفف ظهرك فإن العقبة كؤود، وأخلص العمل فإن الناقد بصير} هكذا انسابت تلكم الكلمات النورانية من ثغر النبى "صلى الله عليه وسلم" وهو ينصح الصحابى أبا ذر رضى الله عنه، والأمة المحمدية بأسرها مشتركة مع أبى ذرٍ فى تلكمُ النصيحة النبوية الغالية، والتوجيه المحمدى الرشيد، وذلك فى لفتة غالية إلى ضرورة التزود بزاد التقوى على طريق وعر وصعب وطويل.
فلئن كان السفر إلى الآخرة سفراً طويلاً وشاقاً، ومحفوفاً بالمخاطر والأهوال، كالذى يسافر على متن بحر بعيد القاع، عالى الموج، فإن رحمة الله الواسعة لن تترك الإنسان- أفضل خلقه عليه- بين تلك المحن دون أن تمُد إحدى أذرعها الحانية الكريمة لتلقط المخلوق المكرم من بين براثنها القاسية، وتلقى به فى واحة إيمانية، نسيمها ذكر الله، وسقاؤها الصلاة، وكنزها الصيام، ونجمها القرآن، واحة أعدها الله لعباده ليسعدوا فيها بالطاعة، ويتلذذوا فيها بالعبادة، ويسترجعوا الصراط المستقيم بعدما تفرقت بهم السبل.
نعم {إن لله فى أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها} وأيام رمضان ولياليه هى أوقات اصطفاها الله على سائر الأوقات لحكمة يعلمها جل وعلا، ولا يجوز لنا أن نُعمل عقولنا فيها، إذ لن يدرك العقل- مهما أوتى من رجاحة وحكمة- العلة من وراء أمر الله، لأن العقل البشرى قاصر عن فهم كافة الحقائق والعلل كاملة، وهنا يبرز معنى اليقين الجازم فى أمر الله، والثقة المطلقة فى جنب الله، بما يجعل الإنسان يعتقد اعتقاداً لا ريب فيه بأن الخير كل الخير فى طاعة الله فيما أمر، والله قال فى كتابه العزيز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ولذلك فأنا لا أميل إلى سرد المنافع الطبية، والصحية لفريضة الصوم، لأن طاعة الله فيما أمر لا تحتاج إلى مسوغ مادى، ولكن تحتاج إلى إيمان يدفع إلى الطاعة بحب وانقياد بلا سؤال ولا استفسار، وهى مرتبة من الإيمان يجب أن يبذل المؤمن ما يستطيع من جهد للارتقاء والوصول إليها فى أيام وليالى الشهر المبارك، لما سُئل رسول الله عن الإحسان، وهو مرتبة من مراتب الإيمان، قال {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} والصيام فرصة سانحة لنحاول أن نصل إلى هذه الدرجة من صدق المراقبة لله تعالى، فالصيام عبادة سرية بين العبد وربه، ولذا فهى تنمى جانب الإيمان فى قلب المؤمن، وترقى به إلى درجة الإحسان، قال الله على لسان نبيه فى الحديث القدسى{كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به}.
إن الصوم تربية للنفس، وترويض لها، وإعلاء لشأن الإرادة أمام مطالبها وشهواتها، بحيث ينتصر الإنسان على نفسه فى معركة لا تقل ضراوة عن انتصاره على عدوه، وهنا ألتقط ملمحاً على جانب كبير من الجمال والروعة، يربط ربطاً فريداً بين الانتصار على النفس والانتصار على العدو.. إذ وقعت فى مثل أيام شهر رمضان المعظم أحداث جسام ذهبت نتائجها لصالح المؤمنين الصائمين.. معركة بدر الكبرى حيث انتصر الموحدون وهم قلة على المشركين وهم كثرة، وكيف لا؟ وقد انتصروا قبل لقاء عدوهم على أنفسهم فكبحوا جماحها، ووطنوها على السمع والطاعة لأمر الله ورسوله.
ثم يأتى نصر أكتوبر المجيد فى رمضان أيضاً ليثبت هذا المعنى، إذ كانت المعركة بكافة الحسابات المادية تصب فى صالح الطرف الآخر، ولكن كان للسماء رأى آخر فحسمتها لصالح الصائمين الصابرين من أبناء مصر الطاهرين، وجندها المخلصين.
فيا أيها القارئ العزيز.. إن رمضان قد أقبل، وهو فرصة ماثلة بين يديك، فلملم شظايا نفسك المبعثرة فى دروب الدنيا، وانهل من محطة رمضان الإيمانية كى تشحن قلبك بالإيمان، وتملأ نفسك بالرضا واليقين، لأن السفر بعيد وطويل.
أسأل الله لى ولك ولكافة المسلمين أن نصل إلى قصدنا سالمين آمنين..آمين.
• إخصائى أول بالتربية والتعليم