خيرى شلبى يكتب: رحيل كاتب سيئ الحظ

السبت، 05 سبتمبر 2009 03:40 م
خيرى شلبى يكتب: رحيل كاتب سيئ الحظ خيرى شلبى يكتب عن الراحل الكاتب الصحفى محمود عوض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت من أشد المعجبين بالكاتب الصحفى الراحل محمود عوض منذ وقت مبكر فى أوائل سبعينيات القرن الماضى، حيث كان محمود وقتذاك يخطو خطواته الأولى فى سلم الشهرة ككاتب صحفى، صدر له كتاب فى سلسلة "كتاب اليوم" الشهيرة التى لا تزال تصدر إلى اليوم عن دار الأخبار بنجاح ملحوظ، الكتاب كان عن "أم كلثوم.. التى لا يعرفها أحد"، وفى جيلنا كان صدور كتاب لواحد منا يعتبر مجداً عظيماً، فما بالك لو صادف الكتاب نجاحاً على نطاق شعبى واسع؟

كلنا تقريباً غبطناه على هذه الأمثلة، وحسدناه على حسن اختياره لموضوع الكتاب، إنه ليس فحسب عن "أم كلثوم" وهى من هى فى ذلك الزمان، بل عن أم كلثوم التى لا يعرفها أحد، فالجرأة هنا مزدوجة أن يتعرض للكتابة عن شخصية كهذه يعتبر الاقتراب منها محفوفاً بالصعوبات والتحديات، فما بالك لاختراق حياتها ودخائلها الشخصية؟ ذلك هو الوجه الآخر لجرأته أنه يقدم عنواناً يتبنى بل يؤكد أن الكتاب سيرينا الوجه الآخر لأم كلثوم، الوجه الشخصى خصالها وعاداتها، وثقافتها، علاقاتها، كيف تتذوق الفن وكيف تتعامل مع الشعراء والملحنين والموسيقيين والإداريين ومع كل من يتصل بها؟ كيف تعيش فى كواليس حياتها الشخصية؟ فلما قرأنا الكتاب أعجبنا ما فيه من ذكاء فى الربط والتحليل، واستقطاب المعلومات الجوهرية الدالة وقدرته على الصياغة الواشية بموهبة.

وقد جاء كتابة التالى عن "محمد عبد الوهاب.. الذى لا يعرفه أحد" الصادر ضمن سلسلة "اقرأ" عن دار المعارف، يؤكد ملامح كاتب أتم نضجه واستقامت له شخصية مستقلة الأسلوب، فلا هو أنيس منصور ولا موسى صبرى ولا مصطفى وعلى أمين ولا محمد زكى ولا أحمد رجب أو سعيد سنبل أو حسين فهمى ولا كل نجوم صحافة دار الأخبار الحاشدة أنذاك ـ فضلاً عن محرريها وكتابها من أبناء الدار ـ بعدد كبير من كبار كتاب مصر ومفكريها أمثال العقاد وتوفيق الحكيم وسلامة موسى وغيرهم يكتبون اليوميات قطعاً ثمينة من الأدب الرفيع، ولعل نشأة محمود فى هذه المدرسة الكبيرة المهمة فى تاريخ مصر السياسى والاجتماعى، هى التى أعطاته الخصوصية فى أسلوب التعبير، فبما أن الكاتب الشاب موهوب بالفطرة، عاشق لكل أساتذته هؤلاء وأولئك عشقه للكتابة فقد نمت ملامحه المستقلة، فما لبث فى زمن قياسى حتى أصبح إضافة ملحوظة لمدرسة الأخبار يزيدها غنى وتنوعاً، ثم لبث إلا قليلاً حتى أصبح إضافة للصحافة المصرية، شخصية أسلوبية جديدة، لها قاموسها الخاص بمفرداته الخاصة، طريقة عديدة فى الطرح والعرض والاستدلال والتحليل واستخلاص الجوهر الثمين من دون ثرثرة.

كما أنه برأ من المرض الصحفى الذى يجعل الكاتب باسم المقدمة والتمهيد يهدر مساحة كبيرة من الورق والجهد فى لف ودوران وعبارات ممطوطة وافتعال الإثارة الرخيصة، فيشحنك بالفراغ حتى لا يبقى فيك متسع لاستيعاب أى موضوع جاد ما هكذا كان محمود عوض، إنما البديع حقاً فى بلاغته أنه استفاد من مدرسة أخبار اليوم نفس الفائدة الإيجابية التى سبقه إليها أستاذنا صلاح حافظ يرحمه الله جعل من الإثارة أسلوب تشويق ممتلئاً بمضمون حقيقى بعبارات منقوعة فى محلول الموضوع الذى يعالجه، ذلك أنه ـ أبو حنفى ـ كان حكاء ساحراً، يستمد سحره من استيعابه للموضوع حتى الثمالة، يسكر به منه، يخترع له حبكة أين من سحرها حبكة روايات أجاثاً كريستى، ولهذا كان من أندر كتاب السياسة الذين يقرؤهم عامة القراء بسلاسة واستيعاب وشغف، رغم أنه يتحدث فى موضوعات مركبة جليلة الشأن. المثير للدهشة والإعجاب معاً أنه وقد عاشر أهل الفن من عبد الحليم حافظ إلى هانى شاكر، واختلط بهم، كان أبرع من كتب فى شئون أهل الفن وحكاياهم التى تصير على قلمه بقدرة قادر شيئاً مهماً يستحق القراءة بإمعان واحترام، هذا الكاتب هو نفسه الذى أصبح كاتباً سياسياً من طراز رفيع وعالمى، طراز الصحفى صاحب الموضوع، والموقف والغاية التنويرية لضمير القلم، لقد كان مؤهلاً لأن ينهض بمؤسسة صحفية كبيرة شرط أن تكون خارج سيطرة أى حكومة من الحكومات، لكنه لسوء العصر بقى طوال عمره فى الهواء غير المطلق لا يملك إلا قلمه كان قد تزوج الكتابة فمنعه عقله من زواج ينجب عيالاً يضطروه إلى الترخص، إلا أنه من زوجته الكتابة خلف كتباً مهمة أقوى من الكائنات الحية، وتلاميذ ومريدين كثاراً، وأسلوباً فى الكتابة سيزداد إشراقاً وتألقاً إلى زمن طويل.

نقلا عن جريدة الأسبوع





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة