محمود عوض

أخر ما كتب الراحل العظيم

تغيير أمريكــى أو فاصــل ونعـود

الخميس، 03 سبتمبر 2009 11:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنا على موعد هذا الأسبوع مع الجزء الثانى من مقال الكاتب الكبير محمود عوض «تغيير أمريكى أو فاصل ونعود»، كنا سننشر الجزء الثانى ليسألنا كعادته عن ردود الفعل عليه، لا يهمه فى ذلك الإشادة بقدر النقد البناء الذى كان يحرص على الاستماع إليه.

كان محمود عوض لديه الكثير من المشروعات التى يعتزم وضعها على الورق، لكن المنية وافته قبل أن يحقق كل شىء، ونقدم للقارئ مقاله كاملا بالجزء الذى تم نشره من قبل، بالإضافة إلى الجزء الثانى لنعرف منه تقييما متكاملا للعلاقة المصرية الأمريكية فى ضوء زيارة الرئيس مبارك الأخيرة إلى واشنطن.

جاءت الزيارة الأخيرة للرئيس حسنى مبارك إلى العاصمة الأمريكية واشنطن لكى تحرك توقعات متقاطعة فى اتجاهات شتى. جزء من الإعلام المصرى اعتبرها «زيارة تاريخية» أو بداية مرحلة جديدة أو نهاية لسنوات عجاف منذ آخر زيارة لمبارك إلى أمريكا فى سنة 2004. فى النظر خلفا لتلك الزيارة بدا أنها تنتمى إلى عالم سحيق يحق بعده التقاط الأنفاس والبدء بصفحة جديدة أساسها الحوار وليس التسلط. الوفد المصاحب لمبارك بدا الأكبر من أى زيارات سابقة على الإطلاق, بل إن الوفد بذاته كان وفدين: وفدا أمام الكاميرات ووفدا آخر خلفها. فى هذه المرة كان الوفد الموازى من رجال بيزنس مصريين يرتبطون فى أعمالهم بالمصالح الأمريكية زائد أشخاص مختارين من الحزب الحاكم بقيادة جمال نجل الرئيس حسنى مبارك.

هناك أيضا -كصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية- من رأى أن هذه الزيارة تزيد من احتمالات توريث السلطة فى مصر إلى جمال مبارك، بينما الرئيس مبارك نفسه أعلن أنه لم يتحدث مع نجله فى مسألة توريث الحكم، وهى بالمجمل ليست فى خاطره الآن. وفى الحوار التليفزيونى الموسع الذى أجراه الرئيس مبارك مع قناة التليفزيون الأمريكية العامة لاحظنا أن ثلاثة من إجمالى 14 سؤالا من المحاور الأمريكى كانت من نصيب صراع الزعامة الإقليمية بين مصر وإيران. مع ذلك تمسك الرئيس مبارك بموقفه المعلن سابقا من أنه، بينما يشكو من تدخلات إيران الإقليمية، لكنه يؤيد امتلاك إيران المعرفة النووية السلمية ويرفض ضربها عسكريا. والأكثر أهمية أن الرئيس مبارك استبق الزيارة برفضه العلنى لفكرة أمريكية بعمل مظلة أمنية ودفاعية تكفل بها أمريكا حماية نووية للدول الحليفة لها بالمنطقة ضد أى تخوفات من إيران. الفكرة كانت طرحتها وزيرة الخارجية الأمريكية من عاصمة تايلاند قبلها بأسابيع وأصبحت مصر تراها شرا مستطيرا حتى لو جرى استبعاد إسرائيل من تلك المظلة.

تعود العلاقة المصرية الأمريكية «الجديدة» إلى ما بعد حرب أكتوبر 1973 وعودة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ حرب يونيو 1967 وأصبحت أمريكا هى الراعى المحتكر لإدارة عملية التسوية التفاوضية بين إسرائيل والأطراف العربية المعنية. احتكار بلغ ذروته بإشراف الرئيس الأمريكى جيمى كارتر على مفاوضات كامب ديفيد التى انتهت بتوقيع أنور السادات على معاهدة صلح مع إسرائيل.

وبينما جرى التبشير فى حينها بأن المعاهدة هى خطوة أولى لتسوية عربية إسرائيلية أكثر شمولا.. إلا أن التراجع الأمريكى سرعان ما جعل تلك المعاهدة مجرد سلام منفصل بين مصر وإسرائيل. سلام عنوانه العريض خروج إسرائيل من سيناء لكن مضمونه وضع على مصر قيودا قيل فى حينها إنها قيود مؤقتة. وسرعان ما أصبح المؤقت دائما بما يجعل مصر لا تستطيع مثلا تعديل بعض الجوانب المجحفة فى المعاهدة إلا بموافقة إسرائيل. وبالطبع لم توافق إسرائيل فى أى مرة على طلب التعديل بما فى ذلك الحاجة إلى زيادة قوات الشرطة المصرية فى منطقة الحدود المصرية مع قطاع غزة ومع إسرائيل، اكتفاء بمجرد 750 جندى شرطة ليس لوجودهم سوى معنى رمزى لا يعبر بالمرة عن أى حماية حقيقية للحدود أو رادع كاف لمحاولات اختراقها.

وأصبح أسوأ مافى تلك العلاقة المصرية الأمريكية الجديدة هو أنها أدخلت إسرائيل طرفا ثالثا فيها بما جعلها علاقة معبرة عن تشوه خلقى سياسيا يتسبب فى أزمات متكررة. مع ذلك بلغ تعلق أنور السادات بتلك العلاقة إلى درجة تطوعه بتصديق مصر فى 1981 على الانضمام إلى معاهدة منع الإنتشار النووى بغير أن يربط ذلك بانضمام إسرائيل إلى المعاهدة. بدا ذلك التنازل المجانى الخطير كأنه يحبس مصر فى إطار قيود المعاهدة بينما إسرائيل المسلحة نوويا بالفعل تظل طليقة خارج المعاهدة وتحتكر لنفسها حق التسلح النووى دون كل دول المنطقة.

وقد جاء تجديد معاهدة منع الانتشار النووى فى سنة 1995 فرصة لتستدرك مصر خطأ السادات. فالمعاهدة فى صيغتها الأولى كانت مدتها محددة بخمس وعشرين سنة. لكن فى صيغتها المجددة التى أصرت عليها أمريكا جعلت المعاهدة بغير سقف زمنى. فى تلك المناسبة حاولت مصر الربط بين توقيعها على تجديد المعاهدة، وانضمام إسرائيل إليها. لكن الإدارة الأمريكية برئاسة بيل كلينتون وقتها رفضت ذلك فاستمر الحال على ما هو عليه: مصر داخل المعاهدة وإسرائيل خارجها.
نموذج آخر على التشوه الخلقى فى العلاقة المصرية الأمريكية المستجدة تمثل فى أنه، بينما مصر أصبحت ملتزمة بالسلام مع إسرائيل إلا أن أنور السادات حصل فى سنته الأخيرة على ثلاثة قروض أمريكية بمبلغ أربعة بلايين ونصف بليون دولار لتمويل شراء أسلحة أمريكية.

وفى أعجب حالة من نوعها كفلت البنوك الأمريكية تلك القروض الثلاثة بالفوائد التجارية، المرتفعة تماما حينئذ، بما يجعل مصر فى نهاية المطاف تسدد لأمريكا 22 بليون دولار ثمنا لقروض من أربعة بلايين ونصف بليون دولار ولشراء أسلحة تسعى أمريكا أساسا لترويجها.

وفى السنوات الأولى من حكم حسنى مبارك أصبحت أقساط ذلك الدين العسكرى مؤرقة تماما واحتاج وقفها إلى جولات وجولات من التفاوض مع الإدارة الأمريكية. ثم.. بمناسبة حاجة أمريكا إلى دور مصرى عربى فى الحملة العسكرية لتحرير الكويت من الغزو العراقى 1990/1991 وافقت أمريكا على إسقاط نصف ديونها المستحقة لدى مصر، وكذلك حلفاؤها، لكن حتى هنا كان الثمن هو التزام مصر ببرنامج تحت إشراف صندوق النقد الدولى والبنك الدولى جوهره البدء فى تصفية القطاع العام والشروع فى برنامج متسارع لخصخصة منشآته الاقتصادية الرابحة إلى الأجانب.

التشوه الخلقى فى العلاقة المصرية الأمريكية تحول إلى تقيح مع إدارة جورج بوش الابن. ففى سنواته الثمانى بالسلطة دعا جورج بوش إلى شرق أوسط جديد يفرضه على دول المنطقة بما يدشن إسرائيل قوة إقليمية مسيطرة من عندها يبدأ الحل والربط.. بينما مصر وباقى دول المنطقة إما منكفئة على نفسها أو تدور فى الفلك الإسرائيلى الأمريكى. كانت إسرائيل قد حصلت على اتفاق أوسلو من ياسر عرفات وجماعته فى سنة 1993 وعلى معاهدة سلام مع الأردن فى سنة 1994 ليضافا إلى إنجازها السابق من المعاهدة مع مصر فى سنة 1979. ومع ذلك ففى العام الماضى قفزت أمريكا بالتزامها بالمعونات العسكرية المجانية إلى إسرائيل من عشرين إلى ثلاثين بليون دولار خلال السنوات العشر القادمة. هذا لم يكن مجرد مضاعفة المعونة العسكرية الأمريكية إلى إسرائيل ولكن أيضا التزام أمريكا بإمداد إسرائيل بأجيال جديدة من الطائرات والصواريخ تضاعف من سطوتها الإقليمية ضد جميع دول المنطقة فوق استمرارها فى احتكار التسلح النووى وحماية أمريكا لاستمرار هذا الاحتكار.

جاءت القشة التى قصمت ظهر البعير فى آخر زيارة قام بها حسنى مبارك لأمريكا فى سنة 2004. فبعد انتهاء زيارة الرئيس مبارك وقبل أن يغادر العاصمة الأمريكية واشنطن اجتمع الرئيس جورج بوش برئيس وزراء إسرائيل آرييل شارون ليسلمه خطابا رسميا تقرر فيه أمريكا حق إسرائيل فى الاحتفاظ بمستوطناتها بالضفة الغربية ضمن أى تسوية، فى انقلاب صريح على السياسة الأمريكية المستمرة منذ 1967 التى تعتبر المستوطنات غير مشروعة من الأصل. وكان هذا موقفا مناقضا لما جرى من مباحثات بين مبارك وبوش.. بل قد يوحى بشبهة تواطؤ أيضا. من وقتها أوقف حسنى مبارك زيارته السنوية المعتادة إلى أمريكا، لكن الإدارة الأمريكية لم توقف تصعيدها المتلاحق للدور الإسرائيلى إقليميا. وفى سابقة غير مألوفة فى السياق الأمريكى قامت إدارة جورج بوش قبل مغادرتها السلطة بثلاثة أيام فقط بتوقيع معاهدة أمنية مع إسرائيل غطاؤها المعلن العمل المشترك على منع وصول الأسلحة إلى منظمة حماس فى قطاع غزة بينما المضمون هو الحق فى تفتيش أى سفينة باتساع البحرين الأبيض والأحمر. اتفاق بالغ الخطورة فوجئت به مصر، التى يقع قطاع غزة على حدودها المباشرة، وأصبح أمرا واقعا ضمن ما ورثته إدارة الرئيس الجديد باراك أوباما من إدارة جورج بوش الغابرة. وخلال أسابيع قليلة من توقيع الاتفاق الأمنى شنت إسرائيل غارة جوية على شمال شرق السودان بحجة ضرب قافلة تحمل أسلحة إلى قطاع غزة برا عبر السودان ومصر.

الإدارة الجديدة ورثت أيضا حربين فى العراق وأفغانستان، ونزيفا مستمرا ضاغطا بشدة على الاقتصاد الأمريكى الذى انكشف فجأة مع انفجار الأزمة المالية فى أمريكا اعتبارا من سبتمبر الماضى. هنا فقط تجاوز الناخب الأمريكى موانع متوارثة وجاء بمواطن أمريكى أسود من أصل إفريقى يدعو إلى التغيير وأنه »نعم نستطيع » هذا التغيير.

الرئيس أوباما آمن منذ اللحظة الأولى بأن الحوار يجب أن يحل محل المواجهة فى سياسات أمريكا الخارجية، وأن هذا الحوار يحتاج إلى شركاء فاعلين تقيم أمريكا علاقتها معهم على تبادل المصالح وليس الإملاءات المتكبرة من البيت الأبيض. وبخطابه الموجه من جامعة القاهرة فى يونيو الماضى إلى العالمين العربى والإسلامى نجح أوباما فى كسب قلوب معظم الموجه إليهم الخطاب. لكن بريق الخطاب وبلاغته سرعان ما أفسحا الطريق أمام اختبار الواقع. وأصبح الاختبار الأول هو الرؤية الأمريكية الجديدة للتسوية بين إسرائيل والفلسطينيين.. وأيضا فتح باب الحوار مع إيران بما يعترف لها بحق المعرفة النووية السلمية ويمنعها من تسلح نووى قالت هى دائما إنها لا تسعى إليه.

وخلال سبعة أشهر فى السلطة تأرجحت السياسة الأمريكية صعودا وهبوطا خصوصا مع السعى إلى خطوات تطبيعية مع الدول العربية مقابل التزام إسرائيل بتجميد الاستيطان. لم تكن تلك هى البداية المبشرة التى توقعها المتفائلون بأوباما منذ البداية، بل بدت فى الواقع كأنها تتيح لإسرائيل مكافآت مجانية عربية جديدة مقابل تجميد استيطان فرضته إسرائيل أصلا بقوة السلاح والاحتلال.

وبدا الموقف المصرى الرافض لتلك المقايضة معبرا عن موقف عربى أشمل. مع ذلك فإن الأسابيع القليلة القادمة هى التى ستكشف عن التقييم الصحيح لمباحثات أوباما وحسنى مبارك: هل هناك حقا بداية جديدة أم عودة إلى الدائرة المفرغة القديمة والمطبات التى عانت منها العلاقة المصرية الأمريكية بامتداد ثلاثين سنة على الأقل؟ هل ما يجرى هو تغيير.. أو مجرد فاصل.. ونعود؟
سوف نرى.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة