إسلام بحيرى

23 عاما من الهدم والبناء فى مجتمع النبوة

"النسخ".. الوهم التراثى

الخميس، 03 سبتمبر 2009 09:55 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نقلاً عن العدد الأسبوعى

لو أردنا أن نعدد الأسباب والدواعى التى أدت بالمسلمين إلى الانزواء عن سرب الأمم المتقدمة، لوجدنا أننا أمام تلال من الأسباب والتداعيات التاريخية والمعاصرة التى تضافرت لتنتج ات على هذا النسق الذى نرى عليه المجتمعات الإسلامية, ليس من بين هذه الأسباب البعد عن ممارسة الدين, أو بمعنى مقارب ليس من بينها الابتعاد عن الطقوس والعبادات والشعائر الإسلامية، فالملايين يقومون سنويا بأداء العمرة والحج، والمساجد تعج بالمصلين فى رمضان وفى غير رمضان, وغطاء الرأس أصبح فوق رؤوس بنات الروضة والصفوف الابتدائية, والفتاوى تترى بالآلاف على مسامع شيوخ الفضائيات, وأبواب الفتوى فى كل زاوية ومسجد مشرعة لا تنغلق, أما الإعلام فقد أصبحت فضائيات الوهابيين بقيادة أشباه العلماء وأرباع الرجال، تغطى الوعى المسلم برداء السفاهة والجهل من إخمص قدميه إلى منابع شعره, وغير ذلك من المظاهر الثانوية التى تؤكد الفكرة وتؤيد الاستدلال, إذن فعلى المستوى الشكلى الظاهرى، المسلمون الآن يؤدون الدين شعائر, ولكن الحقيقة المريرة أن كل ذلك زبد على السطح، لا يمثل إلا دليلا ضد نفسه, فلو كان الإسلام كما يروج له الآن دين التفاصيل والقشور والطقوس، لكان المسلمون على ذلك أنجح المجتمعات, غير أن الحقيقة المريرة أننا بفضل ذلك الزبد الذى فرَّغ الدين من معنى إقامته إلى معنى تأديته، والفارق كبير, والذى هبط بالقيم العليا والأصول الكلية والكبرى إلى ركام الفتاوى المؤطرة، وتدين الإنسان الآلى، والتنطع بالولوج إلى التفاصيل التافهة التى جُعِل منها أصولا كبرى وأمهات عليا لدين الفقه التراثى ثم الوهابى، كما بينا بتوسع فى مقالنا «التشدد حماقة يهودية»، بفضل ذلك أصبحنا نتذيل الأمم والمجتمعات فى كل شىء تقريبا.

◄ شعائر وطقوس:-
إذن فالإشكالية الحقيقية أن المسلم ترسخ فى ذهنه ووعيه أن الإسلام دين شعائر وطقوس، ثم هبط بها إلى الخلاف والتنطع حول هذه الشعائر والطقوس، فدخل الوعى المسلم إلى متاهات واهية، أصبح الوصول فيها إلى إجابة شافية محققة، يمثل غاية وأملا فى حد ذاته، رغم أنها كانت فى إسلام المجتمع النبوى لا تمثل إن وجدت- إلا وسيلة لمرمى ومغزى وهدف أكبر، هو إقامة الدين وليس تأديته.

إذن فما وصلنا إليه إنما هو حصاد التراث والتراثيين قديما وقطاف الوهابية والوهابيين حديثا, تلك المظاهر البالية التى انزرعت فى عقول جدباء، لا تستطيع النظر بشكل كلى، ولا التفكير أو إعمال العقل فيما تتلقاه من أضاليل, فالسمع والطاعة والائتمار عند العقل المسلم أصبح يشكل جزءا من الدين، وبات التفكير والنقد وسبر الحقائق والنظر الكلى الشامل لأصول الدين يمثل خروجا عن المألوف، وجنوحا عن الجادة.

ولو نظرنا لاستكناه الأسباب التى جعلت المسلمين يتذيلون الأمم، ويتأخرون العصور لوجدنا أسباب ذلك من كل مشرب عينا, فالموروث والمعاصر، اتحدا ليمثلا ستارا واقيا أمام الوعى المسلم لكى لا يعرف التجربة الأولى والتطبيق الأول لمجتمع النبوة, لكى لا يتطلع إلى نجاح باهر فى ثلاثة وعشرين عاما بين مكة والمدينة، ترك النبى بعدها المسلمين وهم يتناسبون ويتلاءمون مع روعة النص القرآنى الذى أنزل عليهم, فكان هناك تماه بين الإسلام والمسلمين, تماهيا وتلاقيا يجعل من التطبيق فرعا من النظرية وليس مناقضا لها على الضد, ومن المجتمع المسلم ثمرة ناضجة نابضة من أصل شجرة ضافية، وليس عقولا خربة ومجتمعا متخلفا, ولكننا لما تعامينا عن الحقيقة عامدين بتقديس الاتباع لدين الفقه والحشو, وتركنا التجربة الحية الأكمل فى التاريخ, تجربة الثلاثة والعشرين عاما الطازجة النابضة فى كل وقت، تركناها تتجمد وتتوارى خلف تلك الجدر التراثية، وينسد سيلان هديرها الرائق عبر قنانى الجهل والجهالة التى أصبح الخروج عليها بدعة، والنظر بخلافها ضلالة, وهنا تبلور بيت السقم وأصل الداء.

فالمشكلة ليست فى استرجاع تفاصيل الأحداث والروايات التى تبين طرفا من مجتمع النبوة، ثم التناحر حول الدفاع عن صحتها وعن قداسة من دونوها ولو كانوا بشرا ممن خلق, ولكن المشكلة هى غياب التدبر والوعى الكلى بالتجربة الخام والمكون الرئيس والنبع الأول لاستلهام طرق وسبل نجاحها وآلياته التى غابت وتوارت, ليحل محلها النظر المجزأ والفكر الضيق، والنظر العقيم قديما وحديثا تراثا ومعاصرا, فجزأت المجمل وقطعت الانسياب الفكرى بين مجتمعى مكة والمدينة فى العهد النبوى، لتنتج لنا فى النهاية أحكاما صماء، لم تمر بمراحل التفاعل والتلاقى والتواد بين السماء والأرض بين الله والإنسان، بين النبوة والبشرية, أحكام كأنها منتجات نهائية كاملة لم تمر بمراحل التفاعل والتدرج الذى يظل موجودا فى القرآن ليس لمجتمع النبوة وحسب، بل لكل مجتمع يريد أن يتغير وأن تكلل تجربته بالنجاح, ولكن الذى كان، والذى حدث أن ظهرت ما سميت- علوم النسخ, وفى سياق آخر مواز جمعت رطانة الروايات الباطلة فى أغلبها، بالإضافة إلى تشكيلة متنوعة من الإسرائيليات فيما عرف بالسيرة والمغازى التى أضرت بسلسال الأحداث فى المجتمع النبوى بعهديه المكى والمدنى، وجعلت منه قصصا متقطعة لا سياق بينها, ثم قام المفسرون فى سياق ثالث بتدوين أسباب النزول التى كثيرا ما تكون ضعيفة وباطلة, فأنتجت التركيبة كلها نصا مقفلا مجزأ، لا يمثل وحدة الموضوع، ولا السياق والخط الزمنى لاستلهام آليات التغيير الحقيقية والكلية فى مجتمع النبوة، وشوهت معانى وغايات رائعة، كان من المتوجب النظر إليها بشمولية، لتبين للعقل المسلم، كيف تبدل مجتمع النبوة من مجتمع مؤمن، ولكنه لم يستطع التخلص من علائق الجاهلية وجلافة البداوة وطبقية السادة والعبيد، فكان مجتمعا يؤدى الدين فى الابتداء، ويتنقى عبر الإيمان الحق فى ناحية العقيدة إلى مجتمع مؤمن أيضا، ولكنه يقيم الدين، فيتخلص من الجاهلية العقلية والجاهلية الطبقية الاستعلائية، وينحو فى فترة لاحقة إلى الحرية بمفهومها آنذاك, ثم ينضج ويتبلور ويتكون فى السنوات الأخيرة فى المدينة على ما أراده النص القرآنى بصبر وتؤدة، وما طبقه النبى تفصيلا وتبيينا.

◄أركان مجتمع النبوة:-
لذا فإن تشكل العلوم التراثية، كان مبنيا على مفهوم ضيق حرج للمعنى الكلى والشمولى لأركان مجتمع النبوة الذى وصل بمؤمنيه إلى ما كانوا عليه فى سنوات المدينة المتأخرة, فكما هو معلوم عقلا، كلما ازداد الابتعاد عن الحدث، كان التدبر والاستخلاص منه أوفى وأخلص وأعمق, وهذا ما يؤكد أن نقدنا أو غيرنا للتراثيين وتدوينهم ليس إلا بحثا عن أفق أوسع وسقف أعلى من النظر لعظمة التطبيق فى العهد النبوى بجميع أشكاله الدينية والاجتماعية والعقلية, ومحاولة التماهى مع الفكر الكلى ومع الآليات الكبرى للنمو والتطور والترقى فى مجتمع النبوة، وليس المتماهى مع تفاصيل ذلك النمو التى قد لا تناسب ما فيه المسلمون اليوم إلا قليلا.

فالقصد أن السنة الحقيقية هى فى طرق وسبل التفاعل بين النص القرآنى الذى كان ولا يزال غضا طازجا للمجتمع النبوى، ولكل مجتمع مسلم مما يليه إلى يوم يبعثون, ولكن القاضية اكتملت لما تقدست كتب التراث فى الوعى المسلم ومن كتبها, فأنتجت قيودا على الوعى المسلم فى التعامل مع القرآن الطازج الذى أنزل حيا متفاعلا مع كل مجتمع مسلم لا ينفك عن ذلك على مر الأعصار, فقدنا بتقديسنا لما دونه التراثيون فقدنا الحسنيين.

أولا، فقدنا التعامل الحى والنابض والحر مع القرآن الذى يحمل بين ثناياه ذات عناصر النجاح والترقى والاكتمال، التى غيرت وبدلت جلافة البداوة وجهلها وخرافاتها إلى مجتمع النجوم الزاهرة التى أحاطت بالنبى من كبار وأشياخ الصحابة, وليس معنى ذلك أننا نتكلم عن يوتوبيا الصحابة، فهذا غير صحيح، فالصحابة متفاوتون فى الفضل والقدر، المهاجرون والأنصار أفضل ممن تلاهم، والطلقاء أدناهم درجة، وأشياخ الصحابة أفضل من صغارهم، ولذا فإن منهم من رجع إلى النظر الدنيوى الزائل وأطماعه، بعد أن بدأ الأثر النبوى النابض يخفت فى قلوب بعضهم, ولكن ذلك لا يمنع أن مجموع ومجمل المجتمع النبوى فى عصريه المكى والمدنى، لا يمكن تكراره بشكل كلى, فقد كان عليهم تتنزل الآيات وتقرأ، وبينهم السراج المنير, ولكن يمكن أن نحاول الوصول إلى مسالك وسبل النجاح, فالقرآن ما زال بين أيدينا وكأنه علينا أو فينا أُنزل، وإلا اتهمناه أنه نص تاريخى مؤطر بزمان ومحدد برجال, ولكن إدراك تلك النظرة الشمولية للنص السماوى ولمفهوم وسبيل التطبيق النبوى العبقرى لا يتأتى ولن يتأتى إلا بالخروج من ربقة واستعباد التراث والتراثيين والعودة للتعامل مع مشاكلنا المعاصرة بكل أريحية بعيدا عن تجزئة النصوص ،وتفريغها من مضمون الشمولية الذى به نزلت، فإسلام الشريعة الذى طبقه النبى يمثل مظلة واسعة تستطيع التعامل مع كل زمان وعصر ومكان، بأريحية التكوين الفكرى المطبق فى الثلاثة والعشرين عاما, ولكن إسلام الفقه المقدس لا يعنينا بل يعنى من دونوه وكتبوه, ولكن الذى يعنينا بشدة هو دراسة التحول غير المسبوق والنجاح الكامل لمجتمع النبوة، طبقا لآليات السماء وتطبيق النبى، تلك الآليات التى كنا فى أمس الحاجة أن نستلهم منها كنه وسبيل التحول المجتمعى الناضج، والمتدرج الذى أحدثه النور النازل من السماء، والنور الساكن فى الأرض، لينقل جيلا فى غضون سنوات قلائل من أسفل مكة مكانا ومكانة، إلى عوالى المدينة مكانة ومكانا.

ولكن المأفونين قديما وحديثا، صموا وعموا عن كل ذلك فأنتجوا لنا ما سموه علوما، مثل «النسخ» الذى بفضله التغيت كل التفاعلات الحرة والحية بين تحول هؤلاء القوم فى الصحراء إلى نجوم زاهرة تحيط بالنبى، يملؤها الخشوع والإيمان والعدل والتسامح, كما أن بدعة «النسخ» أضاعت على المسلمين محاكاة هذا التدرج العبقرى فى مناهج الإصلاح النبوى, مما أدى لوصول النص القرآنى جاهزا، وكأنه إنتاج متكامل لا يقبل إعادة الفهم أو المحاكاة أو التدرج, فالنسخ وإن كنا سنفرغ له على توسع- أدى لأن تلخص مئات من آيات القرآن فى آية واحدة وكأن كل هذا التدريج والصبر واللوم والتكرار من القرآن، كان هدرا أضاع الزمان فيه لكى يكون آية للقراءة والمطالعة فقط، وكأن القرآن العظيم موضوع فى مادة التعبير, أو نظم فى نصوص البلاغة.

◄ دولة النبى أو دولة مدنية:-
لماذا مجتمع النبوة وليس دولة النبى؟
مجتمع النبوة هو الوصف الصحيح لعهد النبى صلوات الله عليه، حيث إن وصف دولة النبى أو دولة المدينة هو نعت مخالف لكل المفاهيم الصحيحة، فتلخيص العهد النبوى فى فكرة ترسيخ أركان الدولة مفهوم خاطئ، ولكن النبى كان له الهدف الأسمى وهو إقامة الدين, كما أن التركيز على فكرة الدولة فيه إضاعة وإهدار الجانب الاجتماعى فى ذلك العهد الزاهر والزاهى, وهو الجانب الذى أسس له الإسلام ليبقى متحركا دائما فى عمق الزمان الإسلامى, ولكنه وعبر تأطير التراثيين، تجمد وأصبح استاتيكيا، وظلت نتائجه النهائية والكاملة فقط هى المعرضة للنظر دون الفحص فى آلياته التى أدت به للنجاح، وهذا النظر الضيق الذى عم جل كتب التراث من فقه وتفسير وحديث، جعل من التفاعل الحى بين النص, وبين «الذين آمنوا» تفاعلا تاريخيا محضا، لا يخص الأجيال التالية من «الذين آمنوا» وابتناء على ذلك، أصبحت مرحلة الانتقال بين مجمتع مكة ومجتمع المدينة مرحلة تاريخية، لا تعنى باختلاف وتباين المجتمعات التى انساب إليها الإسلام بلا سيف ولا حرب، رغم أننا فى ذلك كنا الأمس والأحوج لاستلهام تلك المرحلة فى تدرج التشريع ورحمته وصبره, وكذلك أصبح التعايش مع الآخر فى مكة «المشركين والكافرين» والآخر فى المدينة «أهل الكتاب» أصبح تعايشا تاريخيا، لا يهتم بمراحل مركبة ومبسطة ومتداخلة من التعامل مع الآخر الدينى والمجتمعى، وانتهى بفضل «النسخ» إلى آية واحدة فقط، سماها المأفونون والخرقى «آية السيف»، وادعوا زعما وكذبا أنها الضابط الرئيس فى التعامل مع الآخر من المخالف الدينى، وكأن كل آيات القرآن لم تنزل إلا للذكرى التاريخية، وأن التدبر إنما هو لآيتين أو ثلاث على الأكثر، بفضل تلك البدعة المرذولة المسماة بـ «النسخ»، وكأن آيات القرآن لا تتقيد بسياق داخلى أو خارجى-كما بينا فى مقالنا السياق فى القرآن- وللأسف وعلى هذا النهج، تلخصت كل عبقرية النشوء والترقى والانتقاء والتهذيب والضبط والترتيب بين الإسلام والمسلم وبين غيره من أى «آخر»، تلخصت فى آية واحدة وهكذا دواليك مع صناع التراث، عمدوا بقصد أو بغيره إلى تقزيم كل إنجاز حضارى صنعه القرآن تنزيلا والنبى تطبيقا, وذهبت سدى كل تلك الأريحية واللازمانية فى هذا الدين أمام هذه العقول التى تحجرت عن فهم معنى ومغزى نزول القرآن منجما «مفرقا» على سنوات طوال، وتطبيقات النبى المرنة بين مكة والمدينة وبين المدينة والمدينة.

◄ثلاثة وعشرون عاما من الهدم والبناء:-
معلوم فى بدهيات المنطق، أن الإيجاب نقيض لكل سلب, ومن تلك القاعدة، يمكن أن نستنبط أن هدم الإيجاب يعد سلبا إيجابيا، وأن هدم السلب هو إيجاب سلبى, ولو نظرنا لعبقرية المجتمع النبوى بعهديه المكى والنبوى، لوجدنا أننا أمام محاولات استمرت ثلاثة عشر عاما من الهدم فى مكة، هدم المعتقدات الخاطئة والخرافات البالية والعقائد الموروثة وهذا الهدم حسب القاعدة المنطقية هو إيجاب أو بناء سلبى، فمنه أسس القرآن والنبى للعقيدة الصحيحة الصافية، وأسس للإيمان النقى بالله والبعث والكتب والرسل, لذا فإننا نجد الخطاب القرآنى المكى كان يعتمد على تبيين أكبر القضايا الكلية فى العقيدة والتوحيد والبعث والإيمان والكفر والآخرة والأولى, كما هو حال أغلب السور المكية- السور المكية هى التى أنزلت قبل الهجرة النبوية وليس التى مكانها مكة كما يدعى التراثيون لأن بعض السور والآيات أنزلت فى مكة بعد الفتح ولكنها تظل سور مدنية، لأن المكى والمدنى تأريخ لعصر وليس تقريرا لمكان-, لذلك فإننا لو نظرنا للخطاب القرآنى فى تلك السور المجملة التى اهتمت بهدم الباطل أولا، ثم بناء الصحيح لوجدنا خطابا بليغا ذا أهداف واضحة جدا فى شأن العقيدة والإيمان فى سور مثل «الأنعام والأعراف وهود وإبراهيم والنحل والإسراء والكهف وطه والأنبياء والفرقان والنمل والشعراء والقصص ولقمان والسجدة وفاطر وسبأ ويس والزمر وغافر وفصلت والزخرف» وغيرها.

◄ مرحلة البناء فى سنوات المدينة:-
ثم انتقل القرآن ومعه المجتمع النبوى فى مرحلة البناء فى سنوات المدينة العشر التى تنزلت فيها السور المدنية التى تؤسس للتنظيم الداخلى لمجتمع النبوة وذلك بالتدرج -وليس النسخ كما زعموا- الذى يوافق طبيعة التغيير فى النفس البشرية, فكان الاهتمام بالقيم الكبرى والقضايا الكلية التى تنظم حركة واسعة وغير مقيدة للمجتمع القابل لكل تغير، والمرحب بكل تقدم, بل إنه فى مرحلة لاحقة قرنت الآيات القرآنية بين الحقوق المجتمعية لتصبح صنوا للحقوق الدينية الإلهية لنجد تماهيا بين الحقين فى سور القرآن، لتعلن من خلال ذلك وغيره أن المعاملات والأحكام وهى قليلة جدا فى القرآن، تأتى فى مرحلة لاحقة بعد تأكيد وتأصيل القيم الكبرى التى تبين مغزى الدين وهدف ظهوره على الأرض، ونجد ذلك الخطاب القرآنى الذى يؤصل لمجتمع راق ينعم بالحرية ويرنو إلى كل جديد ومتقدم حتى لو لم يكن فى عصر النبوة مع تأكيده الثابت على فكرة الإيمان الحقيقى، الإيمان الذى به يقام الدين فى الواقع وليس الإيمان الطفو الذى يؤدى به الدين فى المساجد والزوايا ثم لا يكون له أثر ولا عين, ومن ذلك نجد الخطاب القرآنى المدنى يفسح لذلك فى سور مثل: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والحج والنور والفتح والحجرات والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والطلاق والتحريم، وحتى من القصار سورة النصر نجد فيها خطابا قرآنيا يروج للبناء.

وهكذا نجد الإسلام نصا وتطبيقا فى عهدين مختلفين، يضع سبيلا عاما وأطرا كلية وقيما كبرى متى ما اتبعت مع اختلاف التفاصيل، وتغير العصور، وتبدل الأماكن كان الإسلام الحقيقى حاضرا فيه بالسمت والروح، وليس كما أراد التراثيون ومن بعدهم الوهابيون حديثا بأن الإسلام الحق إنما هو إعادة إنتاج ذات الأحوال والأقوال بذات التفاصيل ومحاولة تلجيم حركة العقل وتكبيل دائرة التطور الإنسانى، وكأن الإسلام دين لا يناسب إلا الصحراء, لذا ظهرت مفاهيم «البدعة» التى هى ضلالة والتى هى مؤدية للنار, رغم أن مفهوم البدعة الذى اختطه الوهابيون يكاد يكون من كثرة اضطرابه واضطرابهم مفهوما مضحكا, ولكنه للأسف أسس عند الوعى المسلم الغائب والمغيب أصلا لعداء كل جديد فى الدين أو غيره, وأصبح الإسلام الحركى بين مكة والمدينة وبين المدينة والمدينة اختفى وزال, وكأن تلك الحركية كانت تخص عصر التنزيل وما تبقى لنا لا يخرج عن ضلالات التراث وجهالات الوهابيين, لذا وبكل أريحية أصبح المسلمون مجتمعات متخلفة تائهة دخلت فى متاهات التفصيل الفقهى الذى كان يشغل الفراغ قديما ويشغل الخواء الفكرى والبؤس العقلى حديثا، ليخلق دوائر من الغثاء والزبد وحروبا مقدسة كما بينا فى كثير من مقالاتنا، فظنى بل يقينى أن النبى صلوات الله عليه الذى كان ينهى عن كثرة السؤال، ويرد باقتضاب فى مواقف الإسهاب ويعظ ويوجه ويزجر ويأمر بالحكمة والموعظة الحسنة، ما كان ليصدق أن أجيالا وأعمارا متطاولة من أمته ضاعت هدرا فى الخلاف حول ولاية المرأة، وفرضية النقاب، والفرق بين الديمقراطية والشورى وتقصير الجلباب، وفضل السواك على معجون الأسنان والتداوى بـ»البردقوش» بدلا من المضادات الحيوية, ما كان النبى ليصدق أنه بعد سنوات قليلة أصبحت المرأة التى هى زوجته وأمه وبناته الأربع، أصبحت حيوانا لم يكن ليخلق إلا للمتعة، وهى السفيهة متى ما حلت وارتحلت وأنها تقطع الصلاة مع الكلب والحمار كما بينا فى مقالاتنا كثيرا, وما كان النبى صلى الله عليه وسلم ليصدق أن عصر التدوين قد اكتتب فيه الوضاعون والكذابون عنه وعن حياته وحتى موته بكل سوء، ثم تقدست أسماء من كتبوا تلك الروايات البوائس ثم أصبحت تلك الخرافات جزءا من الدين وقنطرة فى الإيمان بين الجنة والنار, رغم أنه صلوات الله عليه ترك دينه على البيضاء لم يكن فيه تقديس لبشر ولا حجر, ولن يصدق النبى أن المسلمين ذهبوا فى أعماق التاريخ ألفا وأربعمائة وعشرين عاما من بعد وفاته وزاد عددهم ليصبح ألف مليون مخلوق، ولكنهم علقوا بالماضى وأصبحت عقولهم وأوعيتهم أضيق من عرب الجاهلية الذين اتسعت عقولهم للدعوة وتغيرت أفهامهم أمام عبقرية التغيير.

ولن يصدق أن الإسلام الذى تركه مؤهلا للتعامل بأريحية التكوين الفكرى المطبق فى الثلاثة والعشرين عاما, أصبح دينا منغلقا على تفاصيله ونسخت عبقرية تعامله الواعى مع المجتمعات ومع النفس البشرية بدعوى أن النسخ فى القرآن واقع وواجب, وهذا الدين الذى كان معدا للصدارة ليس فى الكثرة والتعداد، ولكن فى التطور والإنتاج والتقدم والعمل والقوة والبأس والحرية والعلم والرفاهة, ولكن الذى حدث كان بخلاف كل ذلك سبيلا ومنهجا وفكرا.

ذلك هو الدين الذى كان وتلك آلياته وأدواته السماوية والنبوية التى كانت هى الإرث الحقيقى الحر والمتاح لعقول وأوعية من بعد النبى كانت لتأخذ هذا المجتمع المسلم للأمام, وتلك هى الحال التى نحن عليها بعد عصور التقدم والمدنية, حال يرجم فيها كل عاقل، ويتعقب فيها كل ناصح, تلك الحال التى سيطرت فيها قداسة التراث وغباوة الأشياء الوهابية التى تظهر على شاشات السيطرة، والتنويم المركب لتحارب فجور عطر المرأة، وفسق خروجها من البيت، تلك الحال التى لا ينفع معها لاستنهاض الوعى المسلم وإلحاقة بالقيم الكبرى لهدف الدين من الوجود لا ينفع معه إلا صدمه بالحقيقة المريرة بلا كساء للعلقم من حرير أو ديباج, تلك الحقيقة أو الحقائق التى ما زال المدافعون عن قيم تخلفنا الجمعى يمارون فيها وينافحون عنها، رغم علمهم اليقين بأنها فى وجودها بيت القصيد أن تركها ليس معنى فى بطن الشاعر، ولكنهم فى زيغ من مواجهتها بل ادَّارك علمهم فيها بل منها عمون.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة