حقيقة مؤكدة أنه على مدى ثلاثة آلاف عام تقريباًُ، منذ بداية احتلال الجيوش الأجنبية وإنهاء حكم الأسرة الثلاثين فى العصر الفرعونى وحتى يوليو 1952 لم يحكم مصر حاكم مصرى، ولكن بدأت محاولات المصريين للاستقلال بمصر عن تبعيتها لمراكز خارج مصر، وكان المصريون غير مؤهلين للانخراط فى جيوش تلك القوى الخارجية، التى كانت تفضل استخدام جيوش أجنبية فى محاولاتها وفترات حكمها، وكان الغالبية العظمى من المصريين يعملون فى فلاحة الأرض فقط، ويراقبون محاولات القوى الأخرى غير المصرية للاستقلال بحكم مصر عن تلك المراكز.
حتى جاء القدر بمحمد على باشا عندما أسس أول جيش مصرى من أبناء الشعب المصرى، فخرج الفلاح أحمد عرابى فى أول تعبير عن الهوية الوطنية المصرية والانتماء الوطنى وتمردها المسالم المؤمن على تسلط الأجنبى قائلا: "لسنا عبيد إحساناتكم.. لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فوالله الذى لا إله إلا هو فإننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم"، وبهذا أطلقت الثورة العرابية الهوية المصرية من بعد ألفى عام فى القمقم الذى وضعه فيه الاستعمار الأجنبى، وحرمه من حكم نفسه بنفسه.
ومنذ تلك اللحظة توالت محاولات تأكيد الشعب المصرى لثورة الهوية المصرية، بأشكال مختلفة ومتعددة أدت أخيرا إلى ظهور مصطفى كامل ورفيق دربه محمد فريد، وتوالت الأحداث التى أدت إلى إلغاء الخديوى توفيق للجيش المصرى لإحكام السيطرة على الشعب، بضغط من الاحتلال الإنجليزى لمصر سنة 1882، وتجريد الضباط المصريين من رتبهم وحرمانهم من الحق فى المعاش أو راتب الاستيداع ومحاكمتهم لمناصرتهم عرابى ومحاكمتهم بتهمة العصيان، وتعيين ضابط إنجليزى قائدا عاما للجيش المصرى ورئيسا لأركانه، بغرض القضاء تماما على المؤسسة العسكرية المصرية النابعة من الشعب المصرى المكافح، والقضاء على الهوية الوطنية.
ولكن نظرا لعمق الانتماء الوطنى للشعب المصرى الأصيل، لم يتمكن الاستعمار الإنجليزى من الانتماء الوطنى للشعب المصرى، كما حدث مع شعوب كثيرة فى المنطقة العربية بإلغاء الهوية واللغة العربية منها وسيطرة لغة المستعمر الأجنبى على الانتماء الوطنى لتلك الشعوب، كما فعل المستعمر الإيطالى بالشعب الليبى، والمستعمر الفرنسى بشعوب المغرب العربى وبعض الشعوب العربية الأخرى.
ولكن على العكس من مقصد الاستعمار برز من عمق الشعب المصرى، الزعيم المصرى الوطنى مصطفى النحاس الذى نجح فى إعادة فتح أبواب الجيش المصرى بمقتضى معاهدة 1936 أمام الشعب المصرى، لدخول الكلية الحربية، وبهذا يكون قد فتح الباب عمليا لأن تحكم مصر بأبنائها وكان ملك مصر فى ذلك الوقت يملك ولا يحكم، وفقاً للدستور ولكنه كان من سلالة محمد على باشا، بالرغم من كونه مصرياً وفقا للدستور المصرى. وقامت ثورة 23يوليو سنة 1952، تعبيرا عن الهوية الوطنية والانتماء الوطنى لتحرير البلاد من الاحتلالات الأجنبية المتتالية والاستثمار البريطانى لكى يحكم المصريون وطنهم لأول مرة منذ حوالى قرنين ونصف من الزمان.
واستعادت الهوية المصرية لشعب مصر روحها ومكانتها، ووقفت خلف الجيش، ودعمت ثورة الجيش وأعلنت عدة أهداف للثورة تخدم المجتمع المصرى وتعيد له حقوقه المغتصبة، ومنها العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، عن طريق التأميم وقوانين الإصلاح الزراعى، وتحديات تأميم قناة السويس، وبناء السد العالى وغيرها من الأحلام التى لم يتحقق معظمها، نتيجة عدم خبرة ضباط الثورة الشبان وضعف خبرتهم السياسية، فى مواجهة استعمار غربى خبير فى الخداع والتضليل واللعب بمبادئ "فرق تسد" ومبادئ الميكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة" التى لم يكن يتعامل بها هؤلاء الضباط الشبان، ووقع الشعب المصرى البطل بين فكى الرحايا، وبين مطرقة المؤامرات الدولية الغربية والاستعمارية والعربية أحياناً، وسندان القرارات الداخلية لرجال الثورة الذين جردوا هذا الشعب من حريته بالكامل بطريقة أو بأخرى.
وبرغم ذلك فإن الشعب المصرى بدافع الانتماء الوطنى والثقة فى رئيسه الرئيس محمد حسنى مبارك، صمم ويصمم على الصبر والكفاح انتظاراً لغد مشرق لأولاده ولأحفاده، اعتقاداً منه أن السيد الرئيس سوف يكمل المسيرة بتغيير النظام وتحويل الدولة المصرية الحالية إلى دولة مؤسسات ويقضى على الفساد، ويعدل الدستور ليضمن عدم استعباد الشعب مرة أخرى، ويأمر رجال الأعمال الذين استولوا على ممتلكات الشعب المصرى بإعادة ما سلبوه منه. فلن يقبل الرئيس أن يترك الشعب المصرى غارقاً فى فساد بعض المهيمنين عليه بدون وجه حق، وكل الأمل أن يسلم الرئيس الراية مرفوعة كما استلمها مرفوعة من السيد الرئيس محمد أنور السادات.
ولكن مع الأسف أدت الظروف الحالية إلى إيجاد طبقة من المستعمرين المصريين الأكثر قسوة من المستعمر الأجانب، فهم يسيطرون على ممتلكات الشعب المصرى من أراضى شاسعة ويتملكونها بدون سداد قيمتها، بحجة تنمية الاقتصاد المصرى، ومع الأسف يعيدون بيعها لأغراض غير الأغراض المخصصة بها وفقاً لخطط التنمية ويحولونها إلى مشروعات لا تفيد غيرهم، ويستصدرون قرارات وزارية بمنع استيراد سلع منافسة لمنتجاتهم لاحتكار السوق المصرية، واحتكار المستهلك المصرى، وما كان المستعمر الأجنبى ليقوم بهذين ومنهم من يقوم بتهريب المخدرات أو الفياجرا، ويستخدمون الوسائل المشروعة وغير المشروعة للإثراء غير المشروع ولو طبق عليهم قانون من أين لك هذا لانكشف المستور، ولعلم الشعب إلى أى مدى يتمتع الاستعمار المصرى الجديد بأنياب أكثر وحشية من أنياب أى مستعمر أجنبى، فهل سيقبل السيد الرئيس أن يترك الأمر هكذا؟، وهو من أهم قادة الجيش المصرى الذين عملوا على حماية هذا الشعب بدافع الانتماء الوطنى، بهزيمة العدو الإسرائيلى ومازال مشغولاً بحماية الأمن القومى المصرى، مما شغله عن رجال الأعمال هؤلاء الذين تزاوجوا مع السلطة، واتفقوا جميعاً على هذا الشعب.
فهل هناك أمل أن تتحول مصر من الشرعية الثورية العسكرية إلى الشرعية الدستورية بتفعيل دولة المؤسسات؟ إننا لن نناقش التعديلات السابقة للدستور ولكن المطلوب الآن إنقاذ هذا الشعب من الوضع الحالى الذى أصبح فيه فريسة لحكومة لا تملك من القوة إلا ما تحوله إلى مصالحها الشخصية إلا لو أمر الرئيس بإصلاح فساد معين.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عدلى العدل
روعه
روعه