يبدو المشهد الضاحك فى فيلم (غزل البنات) للفنان الراحل (نجيب الريحانى) المدرس الفقير وهو يرى كيف يعتنى الخادم- الذى ظنه الباشا من فرط أناقته ونظافته- بالكلب، وعندما قال له إنه يعرف أناسا من الآدميين لا يجدون ما يأكلون أياما طوالا بلياليها فقال له الخادم: لكنهم ليسوا فى رقة هذا الكلب ورهافة قوامه، نموذجا طالما نذكره للكوميديا الراقية فى وصف التناقض الصارخ بين امتهان كرامة الآدمى، فى مقابل العناية البالغة بالحيوان، لكنها قد تبدو مقدمة نبتسم لها عندما نطالعها، لكن عما قليل تبدو فجيعة مؤلمة، كما فى القول الشهير للمتنبى (ضحك كالبكاء) أو فى تعريف الأكاديميين (الكوميديا السوداء)، أما التعبير الأدبى عن هذا الموقف فقاله الشاعر فى فلسفة جميلة: (تبيت الأسد فى الغابات جوعى *** ولحم الضأن تأكله الكلاب).
والشاعر هنا يصف حالا مؤلما لا شك فى ذلك، لكنه فى بيته الشعرى يصوغ حكمته مؤكدا على التناقض بين الكريم والوضيع!!، لكن الحقيقة أن ما نحياه اليوم من تناقضات صارخة وظلمات فوق بعضها البعض، قد فاق مثله الشعرى بمراحل.
ويبلغ من التفاصيل الكئيبة لهذا المشهد المؤسف أن من يصيحون لحماية الحيوان وتوفير الأمان له، لا ينظرون للإنسان ذات النظرة، أو حتى أدنى منها بكثير، ففى الوقت الذى يفتتح فيه بأوروبا مخابز متخصصة فى صناعة الحلوى للكلاب، نجد قلة الاكتراث بذبح الأطفال والنساء فى أوطان مقهورة بالحديد والنار، وتفاصيل الأخبار: ( أن تلك المخابز متخصصة فى صناعة جاتوهات وبسكويت للكلاب على شكل عظام أو قلوب أو دوائر، كما تقوم هذه المخابز بتلبية احتياجات الزبائن فى المناسبات المختلفة من أعياد ميلاد وزواج، وتقوم هذه المخابز بتخصيص أركان مزودة بوسائد كثيرة مريحة وبمجموعة من الألعاب حتى يتمكن الكلاب من أكل الحلوى واللعب فى آن واحد)، وهذا الاحتفاء البالغ والعناية الشاذة بالحيوان- حتى يعتبر فى الغرب أحد أفراد العائلة- والانزعاج بلا حدود من إساءة معاملته حتى لو بالكلمة، يقابلها برود مفجع من أنباء سحق الإنسان فى فلسطين والعراق وأوطان أخرى، حتى يحملوا على الشاحنات ويلقوا كالنفايات البشرية فى مقالب القمامة.
والإحصاءات كثيرة ومعبرة عن التناقض المبكى والتالى نموذج منها (والنماذج لا حصر لها): (أن العالم يحيا به 358 مليارديرا، وأن أموالهم تعادل مجموع الدخول السنوية لبلدان يمثل سكانها نصف سكان العالم، أو ما نسبته التقريبية 45% أى قرابة 2.5 مليار نسمة، وأن نسبة 61% من سكان العالم يفتقرون للخدمات الصحية والتغذية والتعليم، بينما هناك دول قليلة يتمتع سكانها بدخول تصل إلى 20000$ للفرد سنويا، بينما هناك مئات الملايين من الفقراء فى العالم لا يزيد دخل الفرد فيهم عن بضع عشرات من الدولارات سنويا).
ولست هنا ضد الإحسان إلى الحيوان، فهذا من الأخلاق الكريمة، والسلوكيات الحضارية الراقية، لكنى ضد هذا الضلال فى سحق الإنسان ثم ادعاء التحضر بالصراخ فى البرية لإنقاذ آحادا من الحيوانات.
كما أنه من باب تحرير المفهوم، فإنى لا أروج ما قاله بعض المثقفين بثقافة القهر، ولا أرسى دعائم نظرية المؤامرة كمشجب لكل البلاء الذى يحياه الإنسان المقهور، لكنى أقدم حقائق كما لا أنفى مسئوليتنا نحو رقى الواقع ومناهضة كل ما يمتهن الإنسان، كما فعل الأوائل ممن صاغوا معنى الكرامة وأصول العزة، كما قال الشاعر:
( لئن فخرت بآباء ذوى حسب *** صدقت لكن بئس من ولدوا)
ورحم الله تعالى شاعرنا الأريب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة