بالطبع، تأثرنا جميعًا بحملة وزارة الصحة لمواجهة مرض أنفلونزا الخنازير. لابد أنك شعرت مثلى بأن الحكومة أخذت مكان الأم التى تخشى على أبنائها من "الهوا الطاير" ولما لا وهى تظهر بمعدل كل عشر دقائق فى التليفزيون لتنصحك بحنان: "لازم تغسل إيديك بالميه والصابون وبلاش الشيشة.. وخد بالك طول ما الإشارة صفرا يعنى لازم نستعد".
ولا يمر يوم إلا ويخرج مسئول من وزارة الصحة ليعلن عن الإجراءات المشددة التى اتبعتها الوزارة لمواجهة أنفلونزا الخنازير، وآخر من وزارة التربية والتعليم ليعلن عن الخطة "الجهنمية" لمواجهة المرض، وكيف أن الوزارة ستوفر طبيبًا لكل مدرسة، ومكانًا لعزل الحالات المشتبه بها.
عشراتٌ من الأخبار يوميًّا، تأتى من الوزارات والمحافظات عن إجراءات مواجهة المرض، تجعلك متيقنًا بأن الحكومة بجميع أجهزتها تركت كل المشاكل المزمنة، وتفرغت لمواجهة المرض "عشان ما يهوبش من جناب حضرتك أيها المواطن الموقر"، ولكن قبل أن تنخدع بكلام الحكومة "الفارغ" أدعوك لزيارة مستشفى حميات إمبابة لتتأكد بنفسك من أن "الحكومة بتاعتنا فنجرية بق على الفاضى".
وقبل أن تسألنى لماذا "الحميات" بالذات، أطلب منك أن تقرأ أى خبر يتعلق باكتشاف حالة لأنفلونزا الخنازير أو حالة اشتباه، ستجد جملة تتكرر فى أى خبر تقرأه، وهى "تم عزل المصاب فى مستشفى حميات العباسية (أو حميات إمبابة أو حميات طنطا.. أى حميات) لحين اكتمال شفائه". ومعنى ذلك أن مستشفيات الحميات بها من معامل التحاليل والأدوات والأطباء ما يجعلها الأجدر من بين مستشفيات وزارة الصحة لعلاج مثل هذه الحالات من نزلات البرد الخطيرة، سواء كانت أنفلونزا خنازير أو غيرها.
زيارتى لمستشفى حميات إمبابة لم تكن مثل زيارات المسئولين المفاجئة التى يتم الإعلان عن موعدها قبلها بأيام، ولذلك كشفت لى الزيارة "عورة" وزارة الصحة، تلك العورة التى سأصفها لكم، رغم تأكدى من أنها ستؤذى مشاعركم، لعل وعسى أن "تُستر الحكومة نفسها وتبطل تمثل دور الأب اللى بيجرى على عياله والأم اللى سهرانة على راحة ولادها". فى الساعة الثالثة من فجر الثلاثاء 8 سبتمبر هرولت بابنى ذى العامين قاصدًا حميات إمبابة، عندما ارتفعت درجة حرارته لتسجل أربعين درجة. كانت الحميات هى الملاذ الأخير لى بعد أن فشل الدواء الذى وصفه الطبيب فى خفض حرارة طفلى، بالإضافة إلى "اللبوسة" التى أدخلتها زوجتى جسمه – بمبادرة شخصية منها – أعقبتها بحقنة، قالت لى إنها ستخفض حرارته حتمًا، كل ذلك دون جدوى، حتى كمادات الخل التى نصحت بها حماتى لم تغير شيئًا.
قبل وصولى المستشفى، اعتقدت أن ابنى سيكون الحالة الوحيدة، وأن الأطباء سيسارعون بالكشف عليه بكل اهتمام، فإذا لم يكن ذلك الاهتمام بدافع الخوف عليه، فعلى الأقل، سيكون دافعهم التخلص من ملل ساعات طويلة من الجلوس دون عمل، فى مثل ذلك الوقت من الليل. عند وصولى، فوجئت بعدد كبير من المرضى وذويهم، أكثر من ثلاثين فردًا ينتظرون فى الساحة الخارجية على مقاعد خشبية طويلة تشبه مقاعد محطات الأتوبيس، ومع تصاعد دخان السجائر فى المكان، كان المشهد يحتاج إلى بائع ذرة مشوى أو "فرشة جرايد" حتى يقترب من شكل ميدان عبد المنعم رياض.
سألت أبًا يحمل طفلة تبكى من الألم: "هو فين مكان الكشف؟" أجابنى: "هناك بس الدكاترة بيسحروا"، وأشار إلى رجل أمن يقف أمام باب مغلق لمبنى مواجه لساحة الانتظار، ذهبت إليه أسأله حاملا التذكرة: "عايز أدخل أكشف لابنى" رد على بلا مبالاة: "الدكتور بيسحر.. وبعدين إنت لسه جاى استنى دورك بعد الناس دى اللى جاية قبليك".
قبل أن أرد عليه سمعت شخصًا يقول: "بقالهم تلات ساعات بيسحروا.. حرام عليهم يسيبوا الناس كده". بالطبع، كان الشخص مبالغًا عندما قدّر الفترة الزمنية التى غاب فيها الطبيب للسحور بثلاث ساعات، ولكن ذلك لا يمنع أن الطبيب غاب بالفعل، ولفترة لا تقل عن الساعة، بدليل ذلك العدد الكبير من المرضى المنتظرين.
أصوات بكاء الأطفال المرضى تداخلت مع أصوات ذويهم التى ارتفعت بالدعاء على الأطباء. توجه عدد كبير منهم إلى رجل الأمن طالبين منه فتح الباب والدخول للكشف. ظهر فى المشهد رجل يكاد يبكى وهو يطلب من رجل الأمن أن يفتح الباب مؤكدًا له أن الدكتور وصف لابنته دواء بالخطأ، صارخا فيه: "افتح بنتى بتموت" فيرد عليه الرجل: "الدكتور بيسحر".
ومع تزايد الاحتجاجات وارتفاع الأصوات وتدافع الأيدى، اضطر الرجل أخيرًا إلى فتح الباب الذى أفضى إلى غرفة لا تزيد مساحتها على 3×3 متر يقف فيها "تمرجى" وراء مكتب صغير، يوزع "ترمومترات" لقياس درجة حرارة المصاب، ويطلب من الآباء والأمهات أن يضعوها تحت أبط أبنائهم لمدة ثلاث دقائق، يأخذها منهم بعد ذلك ليسجل درجة الحرارة على التذكرة. أكثر من ثلاثين شخصًا تكدسوا فى الغرفة الضيقة، يتزاحمون لأخذ الترمومتر أو إعطائه للتمرجى لتسجيل درجة الحرارة.. أكثر من ثلاثين شخصًا بينهم مصابون وبينهم أصحاء سيصبحون مصابين بعد خروجهم من الغرفة، وربما كان من بين المصابين مريض بأنفلونزا الخنازير.
تذكرت جملة تتكرر فى نهاية تحذيرات وزارة الصحة عن مرض أنفلونزا الخنازير، وهى: "الوقاية مسئولية كل واحد فينا". أيقنت أن الوزارة كانت تقصد بهذه الجملة أن "تخلع إيديها من أى مسئولية". ابتعدت أنا وزوجتى عن الغرفة، مفضلا أن يتأخر الكشف على طفلى، على أن ينتقل إليه مرض خطير لم يكن يحمله قبل دخوله المستشفى، أو ينقل هو العدوى لغيره إذا كان مصابًا به.
وعلى الرغم من أننى كنت آخر من أعطى "التمرجى" التذكرة، إلا أننى لم أنتظر سوى دقائق، حتى سمعت المنادى ينادى "آدم على سيد"، لم يدم اندهاشى طويلا، وأدركت سبب هذه السرعة عندما دخلت غرفة الكشف، لأكتشف أن الطبيب لا يزال يكشف على طفلة مصابة، وأن على أن أنتظر ثوانى حتى ينتهى، أى أنه "بيكشف بالاتنين".
عندما أشار لى الطبيب بالاقتراب، حاولت أن أناوله قائمة الدواء التى أخذها طفلى، لم ينظر إليها، بل لم ينظر إلى من الأساس، وفى ظل هذا المشهد العبثى، لم أندهش عندما رفض طفلى فتح فمه للطبيب، فى الوقت الذى أمسك فيه الأخير بقلمه ليكتب الروشتة معلنًا انتهاء الكشف. لم أشأ أن أشارك فى المشهد العبثى، وخرجت دون أن أسأل الطبيب: "هوه ابنى عنده إيه يا دكتور". بعد خروجى من المستشفى هاتفت والدى قائلا له: "آدم تعبان قوى.. أوصف لى أى مستشفى كويسة.. بس ماتكونش حكومى".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة