حين رمى منتظر الزيدى الرئيس الأمريكى السابق بحذائه، سجل التاريخ لحظة ذات كثافة رمزية متعددة الأبعاد. فهى لحظة أنتجت شداً وجذباً، كاد يختصر ما فى الوعى العربى راهناً من جدل. الأسئلة التى طرحت حينها ارتبطت بالحادثة حصراً: هل يليق أن يُرمى ضيف أجنبى بحذاء؟ وما بالك لو كان الضيف رئيساً؟ وأضف على ذلك، أن يكون قاذف الجزمة صحفياً محترفاً، سلاحه المفترض، آلة تصوير وقلم! ثم هل كانت فعلة الصحفى الشاب لتمر بـ"حد أدنى" من العقوبة لو لم يتوافر له هامش من العدل وسيادة القانون، يحاول الزيدى نفسه نفيهما بفعلته؟
طبعاً، فى الجانب الآخر من الصورة، كان هناك من يشيد بالحادثة التى ردت الاعتبار، ولو معنوياً، لضحايا الاحتلال، خصوصاً أنها شكلت ختاماً ذات دوى إعلامى خاص لحقبة الرئيس الأمريكى السابق. وقد عبرت هذه الإشادة عن نفسها بطريقتين. إحداهما مثلت ظاهرة احتفالية وخطابية لا تفعل أكثر من تنفيس احتقان موجود، وأخرى أقل ظهوراً وأضعف أثراً دعت إلى توظيف الحادثة فى سياق الإضاءة على مظاهر المقاومة المدنية للاحتلال، ومراكمة مطالب قانونية وإنسانية تخص آلاف المعتقلين فى السجون الأمريكية والعراقية من دون محاكمة.
غير أن بعداً آخر لهذا الجدل كان حاضراً ولو أن حضوره لم يكن ملموساً. وهو بعد يرتبط بجدليات ما زالت تتحرك فى الوعى العربى العام وأدوات التعبير الإعلامية عنه. فما خلف الحادثة جملة من العناوين الإشكالية، تبدأ بمقاربة قضايا الاحتلال ومشروعية مواجهته وسبل هذه المواجهة، وتمر بالمعايير المهنية الإعلامية، ولا تقف عند شرعية السلطات المحلية وحقوق وواجبات المواطن الفرد.
المواكبة الإعلامية للحادثة، بما اختزنته من جدل، أتت من غير حدب وصوب. وزملاء المهنة فى الصحافة العربية، شكلوا ما يشبه اللوبيات والتكتلات، التى نسقت ضمناً هجوماً على منتظر أو إشادة به.
اليوم، وبعد إطلاق الزيدى من سجنه، تعيد الاصطفافات الإعلامية إنتاج نفسها. ثمة من يبالغ بالتمجيد بالواقعة وبالوقوف عندها كما لو كانت آخر المرتجى، فيجردها من رمزيتها ويحولها من مجرد أداة اعتراضية محفزة، إلى غاية بحد ذاتها. وهناك من يتعاطى معها كما لو كان هو المستهدف بالحذاء. فيستنكر ويمتعض ويبلغ بنقده حد التجريح والإسفاف. بل ويذهب إلى حد اعتصار أفكاره وإجهاد نفسه لبناء مقارنات بين الوضعية القانونية التى حظى بها الزيدى، وتلك التى ينالها أقرانه فى الدول العربية، أو التى كانت تنال من أسلافه فى عراق ما قبل الاحتلال، للدلالة على سوء فعلته.
غير أن الاجتهاد فى الوصف والتقييم، ثناءً أو رفضاً، أضحى على ما نظن، لزوم ما لا يلزم. فالكلمة الختام قالها صاحب الفعل. الزيدى فى مؤتمره الصحفى بعد الإفراج قال إنه أراد أن يجسد الصورة التى يراها كل يوم فى الشارع العراقى. وأردف مقدماً اعتذاره من الإعلاميين والصحفيين إذا كان قد تسبب لهم بإحراج.
منتظر إذن، قد يكون خلع مع حذائه ضوابط الصحافة التقليدية ووضعها جانباً فى لحظة استثنائية. وهو لم يجد عيباً فى الإقرار بذلك. رغم أن الأمانة تقتضى القول إن النظر إلى الحادثة من زاوية كونها إخلالاً بالمواثيق الإعلامية، يأتى غاية فى الاجتزاء. أولاً لكون مواثيق حقوق الإنسان تأتى سابقة على تلك الخاصة بالإعلام فى سلم الأولويات الأخلاقية والقانونية (وللتذكير فإن منتظر – الصحفى – اعتقل مراراً من دون مسوغات قانونية من قبل قوات الاحتلال قبل حادثة رمى الحذاء، ولم تتح له فرصة التظلم أو المحاسبة، بل أفهم بمعنى من المعانى أن القانون غير موجود). وثانياً لأن ما يستدعى التعبير والحكم على مدى مهنية حادثة ما، يستوجب بادئ ذى بدء الحكم على مدى مهنية تعاطى إعلامى بأكمله مع قضايا أعم وأشمل – كالتعاطى مع قضية الاحتلال ومظاهره والاعتراضات عليه.
منتظر الزيدى صحفى، نحى صفته تلك جانباً، وأقدم على فعل تحول من خلاله إلى رمز معبر عن مزاج شعبى مقهور. نقطة على السطر. النقاش الحقيقى ليس فيما فعله منتظر. النقاش فى خلفية الحدث وما يرمز إليه. هو فى مقاربتنا للواقع المأزوم فى العراق. ولكيفية التعاطى مع الاحتلال ومع نظام يعجز عن تأمين نفسه أو تثبيت مشروعيته. وكل ما عدا ذلك جدل على الهامش.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة