سعيد وهبة يكتب: أزمة سياسية بين البرازيل وأمريكا بسبب "بيليه"!

الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009 01:28 ص
سعيد وهبة يكتب: أزمة سياسية بين البرازيل وأمريكا بسبب "بيليه"! بيليه

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وقعت أزمة سياسية حادة بين البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية فى صيف عام 1975 اختزلت كبرى الصحف الأزمة فى عنوان رئيسى يقول: أمريكا تستولى على أهم مصادر الثروة القومية للبرازيل!

أما المقصود بالثروة القومية، فلم يكن إنتاج البرازيل من "البن" ولكن لاعب الكرة الأسطورة "بيليه".

كان بيليه قد وقع اتفاقية "بالحروف الأولى" مع نادى "نيويورك كوزموس" ليلعب له بيليه لمدة ثلاث سنوات مقابل 4.5 مليون دولار، وكان هذا الرقم فلكياً بكل المقاييس آنذاك.

فبيليه الذى اعتزل اللعب دولياً فى عام 1970 بعد أن قاد بلاده لإحراز كأس العالم جول ريميه والاحتفاظ به إلى الأبد، كان قد أعلن اعتزاله اللعب محلياً عام 74 وبعد أن بلغ 33 عاماً.

وفيما يشبه "الصدمة" تلقت الجماهير البرازيلية نبأ تعاقد بيليه مع نادى كوزموس، واستعداده للهجرة إلى أمريكا.

كان بيليه طول حياته الكروية قد رفض عروضاً فلكية للعب خارج البرازيل، ولم يكن موقفه هذا اختيارياً، ولكن الشعب البرازيلى المجنون بكرة القدم وبيليه، كان يضعه فى مصاف أبطال التاريخ، فهو الذى صنع اسم الشهرة البرازيلى لكرة القدم، وهو عنوان الجودة لصناعة كرة القدم البرازيلية، وهو الذى جعل اسم البرازيل مقروناً بكرة القدم، بعد أن كان مقروناً بـ"البن" البرازيلى!

وقامت القيامة فى البرازيل، وضغط الشعب على الحكومة لعدم التفريط فى هذا الرمز، وحاولت الحكومة إيقاف الصفقة، وعرضت على بيليه منصب مستشار الحكومة للرياضة مقابل 1.5 مليون دولار سنوياً!

وتراجع بيليه عن إتمام الصفقة، نزولاً على رغبة حكومة بلاده، وهنا بدأت المساعى الدبلوماسية وظهر سياسيون على أعلى مستوى فى الإدارة الأمريكية يمارسون ضغوطهم على الحكومة البرازيلية، وتأزم الموقف بين البلدين وتوترت العلاقات.

وتدخل "هنرى كيسنجر" شخصياً لتصفية الخلافات وإنهاء الأزمة، وكان وقتها مستشاراً للأمن القومى الأمريكى، وتم توقيع العقد، مقابل تسهيلات أمريكية للبرازيل على جميع المستويات، لم يعلن عنها.

وما أن وصل بيليه لأمريكا حتى نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" نص البرقية التى بعث بها "كيسنجر" لبيليه ونقلتها الصحف البرازيلية فى اليوم التالى:

"إننى على ثقة أن وجودكم فى الولايات المتحدة الأمريكية سوف يسهم إلى حد بعيد فى دعم العلاقات بين بلدينا"

كأنه يخاطب رئيس دولة أو وزير خارجية، لكن بيليه فى حقيقة الأمر كان أهم من ذلك، فهو موهبة أسطورية، ويحظى بشعبية جارفة ليس فى البرازيل فحسب وإنما فى جميع أنحاء العالم وأولها أمريكا، وقد بلغ من الموهبة لدرجة أنه كان قادراً على أن يسحر الجماهير ويكسب تعاطف وينتزع تصنيف وإعجاب جماهير الدول الأخرى، كلما أحرز هدفاً فى مرماها!

ولدرجة أن نادى "كورنتيانز" عرض على ابنه الصغير "أدوين" عقداً غريباً أن يوقع له نظير 150 ألف دولار.

وكان أدوين وقتها عمره 4 سنوات ولم يكن قد مارس كرة القدم ظناً من النادى أن الموهبة يمكن أن تورث، وأن الطفل الصغير سيكون أسطورة حينما يشب عن الطوق! لكن بيليه اعتذر قائلاً:
لست واثقاً أنه سيكون مهتماً بكرة القدم حين يكبر!

وكبر أدوين وصار لاعباً لكرة القدم، ليس مهاجمًا كأبيه، وإنما صار حارساً للمرمى.. حارساً رديئاً!

وحين أنهى بيليه تعاقده مع فريق "كوزموس" الأمريكى استقبله الرئيس كارتر، وحاول إقناعه بقبول منصب سفير فوق العادة للولايات المتحدة الأمريكية غير أن بيليه اعتذر لأنه لا يجوز أن يكون سفيراً لدولتين!

لكن الصحف حملت نبأ بقاء بيليه فى أمريكا وتكليفه بإعادة إحياء وبث كرة القدم فى أمريكا بناء على رغبة الشعب الأمريكى.

ولكن الأهم من هذا كله، أن مكتب الرئيس "كارتر" استدعى مصورى الصحف ووكالات الأنباء لالتقاط صورة للنجم الأسطورى بيليه، وهو يقف أمام الرئيس كارتر، ويقدم عرضاً فى "تنطيط" الكرة!

كان بيليه يرتدى "البدلة الرسمية" لكنه كسر القاعدة ومارس كرة القدم فى حديقة البيت الأبيض من أجل "كارتر"!

وكانت هذه الصورة كفيلة بزيادة شعبية الرئيس، فالشعوب تقتدى بنجومها وتحب ما يحب أبطالها، وخبراء الدعاية فى البيت الأبيض يعرفون مهمتهم تماماً، وبيليه هو عنوان الشعبية الجارفة فى العالم كله، وصوره مع بيليه تطيل أمد الرئيس فى السلطة!

وحين أثيرت أزمة الديون البرازيلية لدى البنك الدولى وصندوق النقد والدول الدائبة واجهت أمريكا وكندا كان بيليه وسيطًا عبر القنوات السرية لتخفيض الديون، ومنح فترات سماح جديدة، وإعادة جدولة الديون.

وحين فشلت مفاوضات الحكومة البرازيلية مع البنك والصندوق الدوليين عام 1992 أعلنت البرازيل أنها لن تسدد دولاراً واحداً من ديونها البالغة 90 مليار دولار!

وتحرك الصندوق والبنك لإنزال عقوبات قاسية على البرازيل، لكن بيليه استغل نفوذه السياسى لدى الإدارة الأمريكية لوقف العقوبات وتعليق الديون، وإعادة الجدولة وتلك نقطة أخرى.
وبعيداً عن بيليه، حرص الرؤساء الأمريكيون جميعاً على أن تكون "الرياضة" ملمحاً رئيسياً من ملامح الصورة التى يتعين طبعها فى "العقل العام".
استغلوا جميعًا الرياضة، وصولاً للجماهير وبهدف إحراز "البرستيج" ومن خلال الإيحاءات وتكريس الانطباعات، بأنهم خدم الشعب "النشطاء".

وذات مرة ظهر الرئيس الأمريكى "بيل كلينتون" فى التليفزيون، وملامح الأسى تكسو وجهه، وهو يلقى بياناً يواسى فيه الشعب الأمريكى على إصابة ساحر كرة السلة ومعشوق الجماهير "ماجيك جونسون" بمرض الإيدز كان الرئيس يتحدث وقد ترك رأسه تتدلى إلى صدره والدموع تطفر من عينيه، وكأنه يذكر الشعب بأنه كان لاعباً لكرة السلة.
وهكذا أراد خبراء الدعاية السياسية استغلال الحدث من خلال شعبية النجم الكبير، بإضفاء لمسة إنسانية على شخصية الرئيس، ومصائب قوم عند قوم فوائد!
ففى أمريكا يموت كل يوم عشرات المئات ومنهم أدباء ومفكرون، ولا يظهر الرئيس ويشاطر الناس أحزانهم، لأن أياً منهم لا يحظى بشعبية لاعب كرة السلة!
وفى عام 1955 أصيب الرئيس الأمريكى "ايزنهاور" بأزمة قلبية أدخل على إثرها المستشفى ووضع الأمريكيون أيديهم على قلوبهم، فقد اهتزت صورة قائد القوات الأمريكية فى الحرب العالمية الثانية.

وشفى الرئيس من أثر الأزمة دعاء لمزاولة نشاطه فى البيت الأبيض، إلا أن أيدى الأمريكيين كانت لم تزل فوق قلوبهم، وقالت استطلاعات الرأى إن شعبية الرئيس مازالت فى خطر، وأن فرص استمراره فى البيت الأبيض باتت مستحيلة.
واجتمع مستشاروه، وتباحثوا الموقف ودار الاجتماع حول سؤال: كيف يستعيد الرئيس شعبيته؟!
وبعد ثلاثة أيام ظهرت الصحف والمجلات الأمريكية تحمل صور الرئيس ايزنهاور بـ"الشورت والفانلة" مرة، وبـ"التراك سوف" بدلة التدريب مرة، وهو يتجول ويتمشى فى ملعب كرة القدم، أو يمارس رياضة "الكريكت" فى ملعب آخر، بينما يحيط به عدد من مساعديه! كانت حملة دعائية منظمة ومدربة لإنقاذ الرئيس واستعادة ثقته بالرأى العام فى الإدارة الأمريكية.
وبما يفيد بأن الرئيس لائق بدنياً بما يكفى لإدارة شئون الدولة، ولم يكن الرئيس فى حقيقة الأمر لائقاً، وتلك قصة أخرى!
وقبل دورة الألعاب الأوليمبية فى المكسيك عام 1968، اشترى الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، ولم يكن قد وصل للرئاسة بعد، اشترى 1: 16 من الوقف المخصص لصناعة الإعلان فى هذه الدورة، ومن خلال شركته "American broadcasing company" فقد كان يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية.

واستغل فترة الذروة فى الإعلانات التليفزيونية خلال الألعاب الأوليمبية، لكى يروج لبضاعته، وقد كان نيكسون لاعباً لكرة القدم بفريق كلية "هوايترز" واستغل هذا "الإنجاز" خلال الحملة الانتخابية بصورة مذهلة ومفجعة، لدرجة أن خصومه شككوا فى أنه كان لاعباً جيداً، قالوا إنه كان مدافعاً رديئاً يضرب خصومه ولا يتمتع بروح رياضية! كأنه كان مرشحاً للانضمام للمنتخب الأمريكى لكرة القدم، وليس للرئاسة الأمريكية!
وكان الرئيس جون كيندى يستدعى المصورين لمشاهدة مباراة كرة القدم الأسبوعية الحامية التى كانت تقام بملعب البيت الأبيض ويشارك فيها "اصطف" الرئيس كاملاً: مستشاروه ومساعدوه.. وعدد من أفراد أسرته!
وفى دورة روما الأوليمبية عام 1960 لقى الفريق الأوليمبى الأمريكى لألعاب القوى هزيمة ساحقة أمام التفوق الروسى، وكانت الألعاب الأوليمبية وقتها محطاً لاختيار القوة، بين روسيا وأمريكا ومجالاً لقياس التفوق بين الشرق والغرب إبان الحرب الباردة.

وبعد أن انتهت الدورة بنكسة للفريق الأمريكى بعث الرئيس "جون كيندى" برسالة لرئيس اللجنة الأوليمبية الأمريكية قال فيها: أنا مؤمن أن فريقنا الأوليمبى أدى بصورة ممتازة كتعبير عن أسلوب حياتنا "our life stile" وأثق أن أبطالنا سوف يستمرون فوق القمة، لتأكيد المنافسة الشريفة كرجال أحرار، هذه المنافسة سوف تظهر مكانه الرياضى المتفوق فى العالم، تماماً مثل مكانتنا كقادة للعالم الحر!
وبعد دورة روما أيضاً ومناخ الحرب الباردة وتعظيم الاهتمام بالبطولة الرياضية عقد الرئيس الفرنسى "شارل ديجول" اجتماعاً لمجلس الوزراء الفرنسى لمناقشة الدلالات الاجتماعية، والانعكاسات السياسية لسوء نتائج الفريق الأوليمبى الفرنسى فى تلك الدورة!
كان الرئيس ديجول منزعجاً، وتساءل عن افتقار الفريق الأوليمبى لروح البطولة، وإرادة الانتصار وتساءل: إذا كان هذا هو حال أبطال الرياضة فما هو الحال بالنسبة لسائر أفراد الشعب!
وطلب الرئيس ديجول من وزير الشباب والرياضة "موريس هيرزوج" تفسيراً لهذه الظاهرة وكتب "ميشيل كلار" مفسراً التفوق الرياضى فى الدول الشيوعية أنه محصلة طبيعية للاهتمام الكبير من الدول بالنشاط الرياضى، وربط هذا النشاط بالأيديولوجية السياسية، والمشاريع الوطنية.

قال إن هذا المنهج حقق نتائج مذهلة ضارباً المثل بالعداء التشيكى "إميلى زاتوبيك" الذى جعلت انتصاراته من بلاده الصغيرة دولة كبرى على خريطة العالم الجديد من خلال الربط بين هذه الانتصارات والدعاية الوطنية أما كيف عالجت فرنسا هذه المشكلة.. فتلك قصة أخرى.
وإذا تركنا الغرب وانتقلنا شرقاً إلى الصين، إلى الزعيم الروحى والقائد التاريخى ماوتسى تونج الذى قاد ثورة الفلاحين إلى تأسيس الصين الحديثة، والذى كان يعد نبياً ورمزاً ونصف إله، نجده خلافاً على كل القواعد، وخروجاً على كل التقاليد الصينية الصارمة، وعملاً بالقاعدة الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات".. ظهر الزعيم المبجل والقائد المقدس ظهر بـ"المايو" لأول مرة أمام عدسات المصورين فى بحيرة "ناسونج كنج" عام 1964.
وفى اليوم التالى امتلأت الصحف الصينية، وكذلك العالمية بصورة الزعيم "ماو" وهو يفطر فى مياه البحيرة، ولا يظهر سوى رأسه، كانت هذه الصورة دعوة للشعب الصينى كله لممارسة السباحة، وكان "ماو" ذا تأثير مذهل على الشعب الصينى، إذا حرك ذراعه شمالاً يتحرك الشعب يساراً، إذا جلس يجلس الشعب، وإذا نهض ينهض الشعب، وباشارة من أصبعه خرج الشعب كله فى لحظة واحدة يطارد الذباب ويقضى عليه، وبإشارة أخرى تعنى على العصافير التى تلتهم ربع محصول الأرز، وبإشارة أخرى تحولت البيوت إلى مصانع صغيرة للحرفيين، وتلك قصة أخرى!
وفى اليوم التالى، لظهور "ماو" بالمايوه، نزل نفس البحيرة 3.5 ملايين مواطن صينى يسبحون كما سبح الزعيم.

وفى العام التالى كان قد بلغ السبعين من عمره حين أشاعت المخابرات الأمريكية "c.i.a" أن صحة الزعيم "ماو" فى خطر، وأنه طريح الفراش وبالتالى فإن نهايته تقترب، وظهر الرئيس الصينى ينفى الشائعة، ظهر بالمايوه فى بحيرة أخرى هى "سبنج توفير" يقف فى المياه.
بينما نصفه عارٍ- نصفه الأعلى طبعا- وقد أحاط به ثلاثة من مساعديه، وبما يفيد أن الزعيم الذى بلغ السبعين من عمره يمارس السباحة كما اعتاد أن يفعل دائماً وبما يفيد أنه لائق بما يكفى لمواجهة الخطر الأمريكى!
وهكذا استخدم الرياضة لنفس شائعة سياسية، أما الرياضة كوظيفة أيدلوجية فكما استخدمها ستاليد وخروتشوف من بعده فى الاتحاد السوفيتى، استخدمها "ماو" ووصفها فى خدمة الاشتراكية الصينية.
وفى الوقت نفسه، استخدمها فى صناعة "البرستيج" وتكريس انطباع عن الزعيم الرهيب- الذى قاد أطول مظاهرة فى التاريخ، قاد مسيرة الفلاحين لمدة ثلاثة سنوات حتى وصل إلى السلطة عام 1949، ليتحول إلى زعيم خرافى عملاق، مثل الكائنات العملاقة فى الأساطير القديمة، التنين، والرخ.
فكل خطوة يخطوها المواطن الصينى، فهى من أجل "ماو" وكل إنجاز يتحقق من أجل "ماو" وبفضل "ماو" وانسحب هذا السلوك على الرياضة، فالبطل الذى يحرز انتصاراً دولياً، فقد أحرزه بفضل "ماو" وتعاليم "ماو" وأفكار "ماو" وإذا فشل البطل أو أخفق، فالسبب أنه لم يقرأ أفكار "ماو" وينسب الفشل للبطل ومدربه أو الاتحاد أو المدرب الأجنبى كما هو الحال فى الديكتاتوريات المتخلفة، مع أن المسئولية لا تتجزأ والمسئول عن النجاح يكون مسئولاً عن الفشل، لكن ماوكان مسئولاً عن النجاح فقط. أما الفشل فهو من اختصاص الآخرين!
وحين فازت الصين لأول مرة ببطولة ألعاب للوثب العالى، وكسرت احتكار الروس والأمريكان لهذه المسابقة التى كانت محصورة بين الروسى "فاليرى بروميل" والأمريكى "جان توماس" تحول هذا الانتصار إلى نصر سياسى مزدوج على روسيا وأمريكا!
وفى أول تصريح للبطل الصينى الذى تجاوز لأول مرة حاجة الـ7 أقدام محطماً الرقم العالمى عام 1962، قال "نى شياه شاير" مفسراً إنجازه ومبرراً إياه:
لقد قرأت أفكار الزعيم "ماو" قبل البطولة وحين أقرأ "ماو" أشعر أن باستطاعتى القفز لارتفاع أعلى مما يصل إليه ارتفاع "سلم الحريق"!
هذا ما قاله لوكالات الأنباء بالنص الحرفى، بعد أن تجاوز العارضة، وهبط على المرتبة المطاطية، ونهض يرفع قبضته هاتفاً فى مواجهة الجماهير: "يحيا الزعيم ماو"!
كأن الزعيم "ماو" هو الذى دفعه إلى أعلى وقذفه فوق العارضة!
وليس من شك أن "ماو" كان ثائراً عظيماً وترك أثراً عظيماً فى شعبه، وصنع إرادة جماعية هائلة لهذا الشعب، لكن الذى لا شك فيه أيضاً أن هذا البطل العالمى للوثب العالى، لم ينجح بأفكار "ماو" وحده، وإنما بأفكار عدد من المدربين الذين صقلوا موهبته.
كما لا يمكن لهذا البطل أن ينسب إنجازه مباشرة للزعيم "ماو" ما لم يكن مدركاً أن الزعيم "ماو" يغبط لذلك أشد الغبطة، لأنه يضيف إليه "البرستيج"!
ولم يكن مثل هذا البطل أكثر من ترس فى آلة الدعاية الضخمة التى تعمل لتفخيم وتمجيد الزعيم العظيم، مبعوث العناية الماركسية!! وتلك قصة أخرى.
والزعيم فيدل كاسترو كان لاعباً لـ"البيسبول" كان لاعباً موهوباً، يشارك فى المباريات وكما اهتمت أمريكا ببيليه، اهتمت كوبا بمارادونا الذى استضافه كاسترو على نفقة الحكومة الكوبية، حينما أصيب بهبوط فى القلب، من جراء تعاطيه الكوكايين، وحرص كاسترو على رسم انطباع إعلامى فى أذهان الرأى العام، أن "كوبا" أنقذت حياة مارادونا، وأن النجم الأرجنتينى اختار العلاج فى كوبا وليس فى أمريكا.. لأسباب سياسية.
وما أن استفاق مارادونا من أزمته الصحية التى كادت تودى بحياته، حتى أطلق قذيفة صاروخية فى اتجاه أمريكا، أكد تعاطفه مع موقف كوبا والزعيم فيدل كاسترو فى مواجهة الحصار الأمريكى، بل ذهب أبعد من ذلك مؤيداً موقف كوبا فى أزمة الأسرة الكوبية المنقسمة، التى وصل أحد أطفالها إلى أمريكا ورفضت الإدارة الأمريكية إعادته إلى أبويه؟ وتلك قصة أخرى!
وإذا انتقلنا إلى زائير نجد الرئيس "موبوتو" الذى كانت بلاده تعيش الفاقة يستدين من البنك الدولى 49.5 مليون دولار لأجل أن تنظم بلاده مباراة القرن العشرين فى الملاكمة، التى استعاد فيها البطل الأسطورة محمد على كلاى عرش بطولة العالم أمام "جورج فورمان" يوم 30 أكتوبر عام 1973.

وفى سبيل "البرستيج" كان موبوتو يتجول بنفسه ويشرف على أماكن ضيوف هذا الحدث العالمى وتفقد بنفسه الجناح الذى سوف ينزل به "كلاى" وحرص على دعوة زعماء القبائل لحضور المباراة فى المقصورة الرئيسية ووضعهم فى ترتيب ما وفق خريطة سياسية.
وفى المؤتمر الصحفى الذى سبق المباراة بيومين توجه أحد الصحفيين لموبوتو بسؤال عن "اسمه بالكامل" وكيف يكتب باللغة الإنجليزية.

وسأله صحفى آخر: هل يحتاج الشعب الزائيرى لمثل هذه المباراة أم يحتاج للطعام؟
وقال موبوتو:
إن العالم كله سوف يعرف بعد المباراة أن هناك دولة مهمة اسمها زائير، وسوف يأكل الشعب بعدها حتى يشبع بعد أن يأتى المستثمرون من كل مكان إلى كينشاسا حيث يقام هذا الحدث العظيم.

واستغل موبوتو الحدث بعد فوز كلاى على نورمان بالضربة القاضية فى الجولة الثامنة ليتحدث عن زائير الموحدة!
وهكذا جعل هذا الحدث من "موبوتو" بطلاً عظيماً يعتبر اسمه بكلاى مع أنه لم يكن بطلاً وكان ديكتاتوراً عظيماً وتلك قصة أخرى!
وإذا عدنا شمالاً.. إلى الفاشية.. قبل الحرب العالمية الثانية، نجد أمامنا الدكتاتور الفاشى موسولينى يتصدر المقصورة الرئيسية فى كل مباريات كرة القدم الذى لعبها الفريق الإيطالى، فى نهائيات كأس العالم عام 1983 التى أقيمت فى إيطاليا، بعد أن دفع أموالاً كثيراً لاستضافتها كى تكون فاترينة عرض للفاشية، ودفع أموالاً أخرى للحكام، كى تفوز إيطاليا ببطولتها!
وقد أكدت استطلاعات الرأى أن موسولينى الذى حضر جميع مباريات الفريق الإيطالى قد زادت شعبيته بعد كأس العالم، بفضل البرستيج الذى حصل عليه من كرة القدم.
ولم يكن غريباً أن نرى الرئيس الفرنسى جاك شيراك يرتدى فانلة المنتخب الفرنسى خلال مونديال فرنسا عام 1998 ولا حماسه وهو يشجع الفريق ويحضر جميع مبارياته!
أما المستشار الألمانى السابق هليموت كول فقد ذهب أبعد من ذلك، كان يطير وراء منتخب ألمانيا ليحضر بطولة أوروبا، وبطولة كأس العالم لكرة القدم، ويجلس فى المدرجات، يصفق بحماس، وهو عرف أن عدسات المصورين تلاحقه!
كان هيلموت كول يعلم أن كرة القدم قادرة على إطالة عمره السياسى، وبالفعل أعيد انتخابه مستشاراً لألمانيا غير مرة.

ومن الغريب أن سقوطه فى المرة الأخيرة جاء فى أعقاب سقوط الكرة الألمانية وتزامن مع انهيار الفريق الألمانى فى كأس العالم عام 98.. وتلك قصة أخرى!
أما رئيس الوزراء الإيطالى "بيرلسكونى" فقد استخدم كرة القدم كمعبر ووسيلة انتقال إلى السلطة أعلى سلطة، رئاسة مجلس الوزراء، لم يسلك الطريق التقليدى بممارسة العمل السياسى، والتدرج فى السلطة، لكنه اختصر الطريق.. عبر كرة القدم!
ولم يعرف بيرلسكونى كزعيم سياسى أو كسياسى أصلاً فى يوم من الأيام بل إنه حين مارس السياسية فى منصب رئيس الوزراء مارسها بغباء وانحطاط، فتهجم على المسلمين وانتقد الإسلام وعاد يسحب كلامه لكنها الرياضة، وحزب كرة القدم، أكبر الأحزاب فى كل مكان، والتى جعلت من رجل الأعمال زعيماً سياسياً ولو كان غبياً!
ولم لا، وهو قادر بإشارة من أصابعه على تحريك الغوغاء من جماهير الكرة؟!
وقد صنعت كرة القدم من أشخاص عاديين زعماء وهميين وأبطالاً مزعومين!
أما الامبراطور الآثيوبى هيلاسى لاسى فقد استغل فرصة فوز العداء الأثيوبى "أبيبى بكيلا" بأول ميدالية ذهبية لأفريقيا فى ألعاب روما الأوليمبية ليجعل من هذا الحدث مناسبة قوية وفى الوقت ذاته يتخلص من خصومه.

فحين عاد هذا البطل إلى "أديس أبابا" وجد استقبالاً أسطورياً، كأنه أحد أبطال الحرب الإغريقية القديمة، فقد وجه الامبراطور خطاباً للشعب يدعوه فيه لاستقبال موكب البطل المظفر الذى استقل سيارة مكشوفة وراح يلوح للجماهير الغفيرة المصطفة على جانبى الطريق بينما وقف إلى جواره "أسد"ـ أى والله أسدـ مربوط من رقبته بسلسلة غليظة تنتهى إلى ذراع البطل ابيبى بكيلا!
ويتقدم موكبه طوابير من الموتوسيكلات الملكية التابعة للحرس الامبراطورى بينما يركض وراء سيارته رهط من الأفيال فى طابور منتظم!
وحين وصل الموكب إلى القصر، نزل الامبراطور يستقبل البطل، ويصطحبه إلى داخل القصر وفى غمرة هذه الاحتفالات بالمناسبة المجيدة تخلص الامبراطور من بعض خصومه السياسيين فأعدم 18 شخصاً ووضع 36 آخرين فى غياهب السجون.

وكانت التهمة أنهم كانوا يتآمرون لإفساد فرحة الشعب بعودة البطل المظفر!
والحقيقة أنهم كانوا أبرياء من هذه التهمة! فلقد كانوا من المعارضين للحكم الديكتاتورى وليسوا من المعارضين لأبيبى بكيلا.. وتلك قصة أخرى!


موضوعات متعلقة..

سعيد وهبة يكتب: زواج الكورة والسلطة.. (الحلقة الأولى )
سعيد وهبة يكتب: تسيس الأولمبياد.. اختراع ألمانى بدأه هتلر حينما تمسك بلافتات "ممنوع دخول الكلاب واليهود"






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة