"رونى أبيرجيل" هو الشاب الذى اخترع المكتبة البشرية. رونى من أب مغربى وأم دانمركية، وفقد أعز أصدقائه فى مشاجرة بحى "كريستيانيا" فى كوبنهاجن عام 1993 بعد أن طعنه تجار المخدرات الذين يسيطرون على الحى، لأنهم ظنوا أنه من الشرطة. منذ ذلك اليوم ورونى يفكر ماذا يمكن أن يفعله حتى لا يتكرر مثل هذا الحادث. "سوء الظن وقلة الحوار تؤدى إلى العنف" قال لى رونى وهو يسرد لى كيف جاءت إليه فكرة المكتبة. "لا بأس بأن يكون لك أحكام مسبقة عن الآخر، ولكن عليك أن تستغل أول فرصة للتخلص منها، ولا توجد وسيلة للتخلص من الأحكام المسبقة إلا الحديث إلى من تسئ الظن به مباشرة، فمعظم هذه الأحكام ليست سوى أوهام تتبدد بعد الحوار". بدأ المشروع صغيرا بعدد محدود من الكتب ثم توسع وسافر خارج حدود الدانمرك والآن تتم ممارسته فى أكثر من مائة دولة.
"وما هو هدفكم الرئيسى من المكتبة" سألت رونى.
"نريد أن ننزع السلاح من أفكار الناس"
"بمناسبة نزع السلاح.. أين العاهرة؟" سألته مجددا.
"ستأتى متأخرة لأن لديها عمل" قال مبتسما.
"من الصبح كدا؟ ربنا يقويها"
"يمكنك الحديث لراقصة الاستربتيز، ألا تكفيك هذه القنبلة؟"
فرغت "روزا فيلتمان" من الحديث لمجموعة من طلبة المدارس فطلبت منها حديثا قصيرا على انفراد. قالت مبتسمة "أنت محظوظ ، فلو كنت طلبت منى هذا الطلب فى الملهى الذى كنت أعمل فيه لكلفك ذلك كثيرا من المال!"
القصة كلها بدأت بإعلان فى جريدة دنماركيه يطلب نادلات فى أحد البارات فى جزيرة تيسالونيكى اليونانية مقابل أجر مغرى. "إجازة صيفية دائمة ودخل كبير" ظنت حينها روزا التى كانت لا تزال فى الثامنة عشرة من عمرها. بدأت بالعمل بالفعل كنادلة فى البار، ولاحظت منذ الأيام الأولى أن كل زميلاتها يعملون بأثدائهم عارية. وكانت مسألة وقت أن يطلب منها صاحب البار نفس الشئ. لم تفكر كثيرا وفعلت، وهكذا صارت تقدم تنازلا بعد الآخر، حتى صارت ترقص كل ليلة عارية تماما أمام زبائن البار.
"هل كان ذلك اكبر تنازل قدمتيه؟"
ترددت قليلا ثم قالت " تقصد النوم مع الزبائن؟ لم أفعل ذلك إلا مع الزبون الذى يعجبنى. أنا بشر!"
روزا توقفت عن الرقص منذ اربعة سنوات. كان ذلك يوم عيد ميلادها الثلاثين. بدلا من أن تحتفل صارت تبكى وحدها فى غرفتها المتواضعة بالجزيرة اليونانية وهى تتساءل: "أين حياتى؟". عادت فورا للدانمرك وعملت مضيفة بأحد القطارات السريعة. تزوجت وأنجبت طفلتين.
"لو قالت لك ابنتك إنها ستذهب لليونان للعمل بأحد البارات ماذا ستقولى لها"
"ساحبسها فى غرفتها حتى تثنى عن عزمها" قالت روزا.
"يا عم رونى.. أختنا العاهرة فين؟"
"موجودة ولكن هناك طابور طويل فى انتظارها"
"ماميت" كان الكتاب الوحيد الذى لم يستعره أحد فى هذا اليوم، رغم أن قصة حياته اكثر تشويقا من جميع الآخرين. ولكن من ذا الذى يريد أن يستعير سمسار عقارات فى حضرة مسلمة محجبة وراقصة وعاهرة؟
كان "ماميت" ثانى مسلم يعرض نفسه ككتاب بالمكتبة. ولكنه لم يأت كمسلم بل كرجل أعمال. وهدفه من ذلك أن يوضح للدنمركيين أن المسلمين بشر عاديين يعملون ويخدمون المجتمع الذى يعيشون فيه. جاء ماميت للدنمرك طفلا مع أمه الإيرانية وأختيه عام 1986 كلاجيئن إلى كوبنهاجن. سكنوا فى سفينة قديمة فى ميناء "أماجر" مع المئات من اللاجئين. عانوا كثيرا من العنصرية والفقر. "كنت نحيفا وقصيرا وأنا طفل وكان أطفال اللاجئين يضربوننى كل يوم، وكان زملائى الدانمركيين فى المدرسة يلقون بى فى صفيحة القمامة، وكنت أود الانتقام منهم، ولكن أمى علمتنى أن العنف لا يضر إلا صاحبه. قالت لى عليك إن تتعلم وتصبح ناجحا، فهذا أفضل انتقام لك. لم تقلها أمى لى ولأخوتى فقط بل كانت هى مثلنا الأعلى، فبدأت هى فى دراسة الطب وتخرجت وفتحت عيادة".
اليوم يمتلك "ماميت" أكبر شركة للعقارات فى كوبنهاجن وهو لم يتجاوز الثلاثين بعد. جاء للمكتبة ليحكى قصته كى يشجع كل من يتخذ العنصرية ذريعة لعدم النجاح فى الحياة، وليبين أن هناك أيضا مسلمين ناجحون فى أوروبا.
أقترح أن يتبنى الدكتور زاهى حواس أو أى وزير ثقافة سيأتى بعد الوزير الفنان هذه الفكرة ويبنى مكتبة مفتوحة تحت سفح الهرم نجد فيها كتبا من لحم ودم بعناوين: مسلم إخوانى، مسلم ما بيركعهاش، قبطى، بهائى، شيعى، ماركسى مهنته النضال، صاحب عربية فول، إمرأة غير محجبة، سائق تاكسى راضى بعيشته، طفل شوارع، حلاق صحة، حرامى غسيل، شاب من ميدان سفنكس، عضو من المجلس الموقر، موظف حكومة، وأمين شرطه اسم الله.. علنا نتعلم أخيرا أن ننصت لمن نسئ الظن بهم ولعلنا نتعلم أن الجواب لا يمكن أن يُقرأ من عنوانه!