عندما هاتفته لنتفق على موعد، لإجراء الحوار، أجابنى فى كسل أننا من الممكن أن نختصر المسافات ونلتقى عبر الأسلاك، أو الإيميل، لكنه حذرنى ألا أرسل كل أسئلة الحوار عبر الإيميل، لأن الكتابة من الأشياء الصعبة التى تحتاج منه تهيؤا كاملا. الكسل فى حياة مصطفى ذكرى ابن جيل التسعينات ليس هو الشىء الوحيد الذى يميزه، لكن ضيقه بكل الالتزامات، ورفضه لمؤسسات نزيف الوقت، وغيرها من التزامات تضع على كتابته قيودا، عرفه الوسط الثقافى من أعمال مثل، هراء متاهة قوطية، التى صدرت عام 1997، الخوف يأكل الروح 1998، ولمسة من عالم غريب 2000، بالإضافة لمجموعتين قصصيتين هما، تدريبات على جملة اعتراضية، ومرآة 2002.
كتب مصطفى ذكرى سيناريو فيلم جنة الشياطين، وعفاريت الأسفلت. فى يومياته الصادرة حديثا عن دار العين للنشر بعنوان على أطراف الأصابع، تناول الكثير من مشاهداته السينمائية، ومشاهداته الأدبية أيضاً، إذ يتحوَّل مشهد من رواية لكاواباتا، على سبيل المثال، إلى مشهد سينمائى، يخضع لصياغة أدبية، عن اليوميات كان لنا هذا الحوار.
وضعتَ كلمة يوميات على كتابك. ما النوع الأدبى الذى تنحاز لكتابته؟
الكتابة عندى خليط مُهجَّن، لا أستطيع تحديد نقاء لها، اللهم إلا نقاء الأسلوب. المصادر تُحرِّك الكتابة، وليس الشخوص كما عند خيرى شلبى، أى ما يُحركنى، ليس حياة الشخوص الواقعية، بل يُحركنى موتها وتحنيطها بين دفتى كتاب أو فيلم. مَشَاهِد من أفلام، أدبيات لمخرجين، كتبوا عن السينما، برجمان، تاركوفيسكى، بازولينى. هى كتابة مفتوحة أستطيع وضعها تحت صيغة كبيرة عريقة مثل اليوميات، المفارقة أن صيغة اليوميات فى أحيان كثيرة، تعتمد بشكل أساسى على التاريخ، أقصد التسجيل التاريخى، كتابته الصورية البسيطة، نفاق اليوم والشهر والسنة، فضَّلتُ عليه تجريد الأرقام، تبدأ اليوميات برقم واحد، وتنتهى إلى ستة وخمسين.
هل صيغة اليوميات أنسب لمن يريد الحرية من قيود الرواية أو القصة القصيرة؟
كنت بحاجة لصيغة كبيرة أكتب تحتها، فعلتُ هذا فى رواية الرسائل، وهى آخر عمل لى قبل اليوميات، لكننى فى الكتب السابقة كنتُ مُقيداً بشكل ما، كنتُ مُلزماً أمام نفسى بالحد الأدنى من احترام القواعد الدرامية الأرسطية، وعندما أقول لكَ: الحد الأدنى، فهو ليس كذلك عند كثيرين. مع اليوميات قطعتُ الحبل السُّرى، وانجرفتُ مع التيار، وخرجتُ فى النهاية من أذن الرواية العربية، كما خرج جارجانتوا بطل رابليه من أذن أمه.
الخروج على الكبار.. رأيك فى إدوار الخراط؟
ما كتبته عن بطل إدوار الخراط فى ثلاثيته رامة والتنين، والزمن الآخر، ويقين العطش، هو أن بطله ميخائيل ليس له وصف جسدى داخل الثلاثية، كما لرامة. كان هذا الوصف هاماً فى عمل إيروتيكى، غايته فعل الحب. إن تغييب التشريح الفسيولوجى لميخائيل، يجعل ثلاثية إدوار الخراط، أدب استمناء ذكورى، لغوى فى أحسن الأحوال. ليس هذا ما كنتُ أعتقده منذ عشرين سنة. رأيى الآن فى إدوار الخراط، هو تصفية حساب مؤلمة مع ذوقى النقى.
ابتعاد الكاتب عن الزواج والعمل فى مؤسسة والعلاقات الاجتماعية.. مؤسسات نزيف الوقت على حد تعبيرك؟
أرى أنها فعلا مؤسسات تهدر الوقت كثيرا، فالالتزام فى مكان معين، أو مؤسسة سواء عمل منتظم، أو حياة زوجية، تُعطِّل الكتابة، أو كأنّ الكتابة هى التى لا تسمح بأشياء أخرى معها، يجب أن يكون وقتك كله لها، أو هناك البعض يرى هذا، لكن هذا لا علاقة له بقيمة المادة المُنْتَجَة، وإلا لأصبح الأمر بسيطا، ولأصبح البعد عن المؤسسات الاجتماعية شرطاً للكتابة الجديدة. أنا أعتبر التفرغ للكتابة هو عربون محبة للمهنة، على طريقة الصوفيين، وأن مهنة الكتابة لا تقبل إلا بكَ كُلكَ، لكنها لا تقدم أى وعود، وأنا أقبل بهذا الشرط المجحف على سبيل القربان، وكأننى أريد للمهنة أن تشعر أمامى يوماً بذنب الجفاء.
هل يمكن للكاتب العاجى أن يكتب إذا ابتعد عن الناس؟
الأبراج العاجيَّة التى رُفِعَتْ على مر السنين فوق مَنَاكب كُتَّابٍ تقرَّحتْ رُمَّانة أكتافهم من حِمْل قصعة الميتافيزيقا المليئة بمونة العزلة والنفور والهروب من الواقع مقيمين دائمين فى الأعالى يتنفسون هواء نيتشه الجبلى، مستندين بالمرافق على كورنيش شُرْفَة عقولهم، حالمين بشىء آخر، يخلطون القهوة بهيل الملل، والكحول بماء الروح. فرانز كافكا، واحد من فريقهم، يصف فى رواية القصر مُعاينة "ك" الباردة لبرجٍ من الأبراج العاجيَّة. كان البرج فوق التل مستديراً، يغطيه فى بعض أجزائه اللبلاب حانياً عليه، له نوافذ صغيرة، ترسل شعاعاً واضحاً. كان البناء ينتهى بإبرٍ مسننة تدخل فى السماء الزرقاء. وكان الناظر إلى البرج يشعر كأنما أراد أحد المختلين أن يحبس نفسه فى أعلى نقطة من البرج، فخرقه، وظهر أمام العَالَم. وفى مكان آخر، ربما اليوميات، يتخيل فرانز كافكا نفسه فى قبو تحت الأرض، معزولاً عن العَالَم، وأمامه منضدة للكتابة، وهناك ركن فى القبو، يذهب إليه عند حاجته للطعام، وسيجد الطعام جاهزاً دون تعكير صفاء عينيه بكائن بشرى. فى الحالتين، حالة البرج، وحالة القبو، يتم للكاتب تحقيق الشرط الفنى عبر الابتعاد عن سطح الأرض، سطح الواقع، وذلك بالارتفاع أو الانخفاض عن مستواه. أفقر التجارب يمكنها أن تنتج أدبا جيداً، أو أدباً سيئاً، ومثال على ذلك هنرى ميللر الذى سافر، ورحل هنا وهناك، واعتمد على تجربته الحياتية، لافتقاده الأسلوب، فخزينته كلها من الدنيا، وليستْ من المهنة، ويقابله فى مصر خيرى شلبى، الذى رأى أكثر منا، وخالط الشطَّار والعيّارين والهجَّامين، ومع هذا، فأدبه لا ينتسب إلى الأسلوبية، والأسلوب هو المعيار النهائى فى الحكم على الكاتب، ولذلك أرى أن "شلبى" غنى بشخوصه فقير بأسلوبه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة