فى حديقة القصر الملكى فى كوبنهاجن تتراص الكتب على أرففها تحت سماء كوبنهاجن الملبدة بالغيوم فى الهواء الطلق. كتب تنبض وتحاول أن تنتزع منك أحكامك المسبقة.
"بينتا" امرأة فوق الخمسين تسكن فى حى كريستيانيا سئ السمعة. الحى ليس فقط وكرا للمجرمين، بل دولة داخل الدولة. بدأت قصة كريستيانيا باحتلال مجموعة من الشباب الخنافس "الهيبى" بعض الثكنات العسكرية المهجورة فى وسط كوبنهاجن عام 1971 وأعلنوها منطقة لا تخضع للسيادة الدانمركية. قالوا إنهم ضد الرأسمالية والاستهلاك واغتصاب البيئة، ولذلك قرروا أن يعيشوا بأسلوب حياة مختلف لا يعتمدون فيه على الدولة ومؤسساتها. ومن يومها صارت كريستيانيا واحة للحرية التامة بلا قانون ولا شرطة. يعيش فيها قرابة ألف شخص وفق مبدأ الاكتفاء الذاتى فلا يدفعون ضرائب للدولة ولا يستفيدون من خدماتها. كل شئ مسموح فى كريستيانيا إلا التصوير والجرى وذلك لسبب وجيه، فكريستيانيا أصبحت أكبر وكر لتجارة المخدرات فى الدانمرك ورجال الشرطة لا يستطيعون دخولها إلا متنكرين.
قبل زيارة المكتبة الحية بيومين جاءتنى فكرة حمقاء أن أزور كريستيانيا. وكانت الفكرة الأكثر حمقا هى أن اصطحب معى الصحفى الألمانى "هنرك برودر" من مجلة شبيجيل الألمانية. هنرك صحفى مخضرم ويحب المغامرات. دخلنا من بوابة المستعمرة التى رفع عليها علم آخر غير علم الدانمرك. معظم بنايات المستعمرة من الخشب وكذلك الأكشاك التى يبيع فيها تجار المخدرات بضائعهم علنا. لم يعترف بلافتات "ممنوع التصوير" المنتشرة فى كل مكان بالمستعمرة وراح يصور تجار المخدرات وزبائنهم، حتى التفت حوله مجموعة من ذوى العضلات المفتولة وطلبوا منه أن يريهم الصور، ولكنه رفض فانهالوا عليه ضربا ومزقوا بنطاله وأخذوا منه الكاميرا والقوها فى برميل به نار مستعرة. وقد نالنى والحمد لله من الحب جانب وأصبت بكدمات فى اليد والصدر وأنا أحاول الدفاع عنه. كانوا على درجة من الكرم، فلم يفتحوا علينا المطاوى بل اكتفوا بطردنا من المستعمرة وحذرونا من العودة مرة أخرى. توجهنا لأحد أقسام الشرطة خارج كريستيانيا وقدمنا بلاغا بالواقعة، ولكن رجال الشرطة رفضوا الذهاب معنا للمستعمرة للتعرف على من ضربوا هنرك وأحرقوا كاميرته، وقالوا إن الشرطة تحتاج لخمسين فرد مسلح للدخول لكريستيانيا، وهم لا يفعلون ذلك إلا فى حالات جرائم القتل. لم يتبق لهنرك إلا نشر تفاصيل هذه المغامرة على موقع صحيفة شبيجيل. وفى اليوم التالى نشرت الصحف الدنمركية الخبر وطالبت بإغلاق "كريستيانيا" وتحطيم منازلها.
ما علينا! فقد كان لدى حكم مسبق طازة ضد كريستيانيا وأنا أتحدث إلى "بينتا". ولكنها قالت لى إنى رأيت جانبا واحدا من كريستيانيا وهو أسوأ الجوانب أما باقى المكان فهو مثل جنة على الأرض يأكل كل سكانه مما غرست أيديهم ويتضامن أهله مع بعضهم ويساعدوا كل محتاج. وما تجار المخدرات إلا قلة قليلة يستغلون الحرية المطلقة وغياب الشرطة.
"ولكن الجميع يدخنون الحشيش" قلت لها.
"نعم.. ولكن الحشيش ليس من المخدرات، ولكنه وسيلة للسمو للروح.. البعض يحتاج الرياضة والبعض يتجه للفن وآخرون يفضلون الحشيش للبحث عن ذاتهم" قالت بتصميم.
وعن سؤالى لها كيف يفضون نزاعاتهم فى غياب الشرطة قالت "بمبدأ الشورى" عن طريق اجتماع لكل سكان المستعمرة والنقاش حتى التوصل لقرار بالإجماع. وأقسى العقوبات التى يفرضها سكان كريستيانيا على الجانى هى النفى إلى الأبد.
لا أستطيع أن أدعى أن كلام "بينتا" عن كريستيانيا غير وجهة نظرى عنها، ولكنه زاد من فضولى الملعون أن أزور المكان مرة أخرى، وهذه المرة لم يحدث شئ.
رحت أفكر فى قصة حى نورى بور وكريستيانيا وأبحث عن أوجه الشبه بينهما، وتوصلت إلى أن عزلة أى مجموعة عن باقى المجتمع تؤدى إلى ما يشبه "زواج المحارم" على المستوى الثقافى والاجتماعى، حيث لا ينتج عن ذلك سوى أطفال مشوهين أو مرضى. العزلة تؤدى إلى الخوف أو سوء الظن بالآخر. والهروب إلى العزلة باسم الحرية لا يؤدى فى النهاية سوى إلى مزيد من القيود والأعراف التى قد تصل لدرجة العبودية. معظم سكان نورى بور وكريستيانيا بالفعل مسالمون وطيبون، ولكنهم فاقدوا الإرادة ولا يتعاملون بوعى مع مصائرهم، ولذلك يسيطر عليهم عصابة صغيرة من المجرمين..
ألا يذكرنا ذلك بما يحدث فى بلادنا؟
فى اليوم الثالث حاورت شاب مسلم من نوع فريد وراقصة استربتيز والشاب الذى اخترع المكتبة البشرية.. المزيد بالجزء الثالث.
أخبار متعلقة :
حامد عبد الصمد يكتب من كوبنهاجن عن أغرب مكتبة فى العالم
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة