كانت زيارتى الأخيرة لكوبنهاجن حافلة بالأحداث واللقاءات والمغامرات. التقيت بالصحفى المسئول عن نشر الرسوم المسيئة للرسول وحاورته، وتشاجرت مع باعة مخدرات فى عقر دارهم، وزرت مكتبة فريدة من نوعها هى موضوع هذا المقال.. صادفت زيارتى للمدينة تواجد المكتبة المتنقلة فى حديقة القصر الملكى فى الفترة مابين 28 و30 أغسطس.
مكتبة غريبة فعلا.. كل كتبها عبارة عن بشر.. يمكنك استعارة كتاب لمدة نصف ساعة وتتركه يحكى لك قصة حياته ثم تسأله عن كل ما يجول بخاطرك قبل أن تعيده للرف وتستعير كتاب بشرى آخر. رجل شرطة، عاهرة، سمسار عقارات، مدمن مخدرات، مثلى جنسى، قس، امرأة مسلمة، لاجئ سياسى، راقصة استربتيز ورجل معوق وعشرات الآخرين. كلهم جاءوا كى يحكوا قصتهم ويخبروا كل من يريد عن طبيعة وظائفهم وظروف حياتهم اليومية.
"مرحبا بالأحكام المسبقة" هذا هو شعار المكتبة.
"استعرنى" قرأتها مكتوبة على صدر "أيسون" وهى شابة مسلمة محجبة من أصول تركية. عمرها 26 سنة وتعمل طبيبة أسنان فى كوبنهاجن. سألتها عن دافعها للمشاركة فى المكتبة الحية، فقالت إن فضول الدانمركيين زاد بشكل كبير عن الإسلام منذ نشر الرسوم المسيئة للرسول، وإنها ترى أنه من واجبها كمسلمة وكدنماركية أن تشرح لمن لا يعرفون الإسلام حقيقته وتعاليمه السمحة لإزالة سوء التفاهم.
أيسون لم تنشأ فى أسرة متدينة ولم تكن لها علاقة بالإسلام فى الماضى، بل كانت تهتم بالحفلات والمرح كأية فتاة دنمركية فى عمرها، حتى نشرت صحيفة يولان بوستن الرسوم المسيئة للرسول. أدت الرسوم وموجات العنف والمظاهرات التى تلتها إلى توتر واضح بين المسلمين والدانمركيين. بعدها صارت أيسون تلاحظ نظرات القلق وسوء الظن من الدنماركيين تجاهها وتجاه كل من يبدو عليه أنه مسلم، ففكرت فى عمل شىء ترد به. فى البداية صارت ترتدى تى شيرت عليه علم تركيا لتتحدى من ينظرون إليها بحدة، ولكن ذلك لم يمنحها الهوية التى كانت تبحث عنها، فقررت ارتداء الحجاب. ورغم أن الحجاب زاد من النظرات الغريبة إليها فإنها تشعر بالأمان والراحة النفسية وهى ترتديه. حتى المرضى الدنماركيين الذين يأتون لعيادتها لعلاج أسنانهم يتعجبون من حجابها فى بادئ الأمر ثم يعتادوا عليه بسرعة.
"الدنماركيون لا يكرهون المسلمين، ولكنهم لا تتاح لهم الكثير من الفرص للحديث إلى مسلم، فالكثيرون من المهاجرين المسلمين لا يجيدون اللغة الدنماركية ولا حتى الإنجليزية" ومن هنا رأت أيسون أن من واجبها المشاركة فى مشروع المكتبة الدنماركية لتحسين صورة الإسلام عند الدنماركيين. "بحجابى هذا وبشخصيتى أعلم الدنماركيين ألا يحكموا على الكتاب من غلافه".
ظلت أيسون تجيب أسئلة الدنماركيين عن وضع المرأة فى الإسلام وما يعنى الحجاب بالنسبة لها وأسباب الإرهاب طوال النهار. كانت تجيب بصبر منقطع النظير وصارت هى ثانى أكثر الكتب استعارة فى المكتبة الحية.
"نيم" هو ذلك النوع من رجال الشرطة الذى تتمنى أن يقبض عليك: بشوش ومثقف ومش شايف نفسه. بدأ حياته العملية مساعدا للعجائز بإحدى دور المسنين ثم تقدم لأكاديمية الشرطة وتخرج وعمل ضابطا بكوبنهاجن. يقول "نيم" إنه يحب عمله كثيرا، خاصة وأن كوبنهاجن مدينة مسالمة، ولكن هناك حيّين بالمدينة يسببون قلقا مستمرا لرجال الشرطة ولباقى سكان كوبنهاجن. الحى الأول هو "نورى بور" ويسكنه العديد من المهاجرين. "99 بالمائة من هؤلاء المهاجرين مسالمون وطيبون" قال "نيم"، ولكن حوالى فقط سبعين شخصا من الشباب التركى والمغربى يشكلون عصابة ويبتزون سكان الحى ويرهبونهم ليل نهار. فهم عاطلون نشأوا بلا تعليم وبلا قدوة حسنة، عائلاتهم وكذلك الحكومة الدنماركية تركوهم بلا سند فانحدروا إلى عالم الجريمة. ليس من العجيب أن تكون قدوتهم الوحيدة تجار المخدرات والمجرمين من المهاجرين، لأنهم الوحيدون فى الحى الذين يركبون المرسيدس ويمتلكون الأموال. فهذا الحى صار مقسما لجزءين يفصلهما شارع واحد: الجزء الأول يسكنه الدنماركيون وميسورى الحال من المهاجرين، والجزء الثانى يسكنه من لم يسعفه الحظ من المهاجرين ويعيشون تحت رحمة سبعين شابا يتقاضون منهم الإتاوات ويبيعون المخدرات.
"ليس غريبا أن ينحرف شباب فى ظروف مثل هذه، ولكن الغريب أن يسمح آلاف من البشر لشرذمة صغيرة منهم أن تتحكم فى مصائرهم وتجعلهم يعيشون فى رعب" قال ضابط الشرطة: قلت لـ "نيم" إنى أريد زيارة هذا الحى، فحذرنى ألا أفعل، ثم نصحنى إذا سرت فى شوارع الحى ألا أرفع عينى فى عين أحد من الشباب الواقف على النواصى وإلا جاءوا وطعنونى على الفور. قلت له "هل نسيت أنى أيضا مهاجر؟"
فى المساء تجرأت وذهبت لحى نورى بور، وفى الحقيقة لم أر هناك أى شكل من أشكال الإجرام على الإطلاق. وجدتها منطقة حيوية بها العديد من المحلات والمطاعم العربية والهندية. الشىء الوحيد اللافت للنظر هناك أن نسبة مرتديات الحجاب والنقاب تزيد عن المألوف.
حى آخر حدثنى عنه "نيم" يمثل مشكلة أمنية فى كوبنهاجن، وهو حى "كريستيانيا" الذى ولد منذ أكثر من ثمانية وثلاثين عاما كـ "يوتوبيا" للحرية المطلقة وانتهى به المطاف كأكبر وكر لتجارة المخدرات فى الدنمرك. لم يكن "نيم" بحاجة ليشرح لى خطورة هذا الحى فقد زرته قبل يومين من زيارة المكتبة وتعرضت فيه لمغامرة غير طريفة سأسردها بالتفصيل فى الجزء الثانى من هذا التقرير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة