تورمت رائحة الفساد فى ربوع مصر المحروسة بدرجة أزكمت الأنوف فى شتى مناحى الحياة، وأصبح الحديث عن الفساد هو حديث القاصى والدانى من أبناء هذا الوطن المخلصين. ووقف الكل يتمنى رؤية ضوء- أى ضوء - فى نهاية هذا النفق الحالك الظلمة. ولكن.... كيف تسلل هذا الفساد إلى مجتمعنا الذى لم يشهد هذا المستوى من بجاحة الفساد من قبل؟؟
والفساد - كما هو معلوم- ظاهرة عالمية، يتواجد فى كل مكان من أرض الله ولكن بنسب متفاوتة، يتزايد، ويتضاءل حسب قوة الدولة وهيبتها فى نفوس مواطنيها. ولكن فى حالتنا المصرية الراهنة أصبح الفساد عندنا - أقل ما يوصف به - أنه فساد من النوع المتبجح. فما كان يتم فعله تحت الطاولات فى السر مصحوبا بدرجة من التخفى، والتوارى عن أعين المجتمع، (وكلمة السر يا معلم)، إلى آخر هذه الاحتياطات اللازمة للتأمين، أصبح يتم عيانا بيانا، دون خوف لا من قانون، ولا من سلطة، ولا من شرطة، ولا من أعراف، ولا من قيم، ولا من تقاليد تحكم مجتمعنا المصرى العريق.
أحد أهم أسباب تفشى الفساد فى بلادنا فى شتى مناحى حياتنا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والصناعية، والزراعية، والعلمية، والتعليمية.... الخ هو تفشى ثقافةَ: (تقديم الشأن الخاصة على الشأن العام) عند قطاع غير قليل من أبناء بلدنا. أصبحنا فى زمن من السهل فيه أن يكون ( الفرد) أقوى من (المجتمع)، زمن يفعل فيه الفرد ما يشاء، كيفما شاء، وقتما شاء بالطريقة التى تحلو له، من أجل شىء واحد ألا وهو: تحقيق مصلحته الخاصة، دون النظر لا إلى مصلحة عامة، ولا إلى صالح عام، ولا إلى حقوق مجتمع، ولا غيره. المهم مصلحته الخاصة فقط، ولسان حاله يقول: "خراب يا مصر عمار يا دماغى"، و"اشهد لى بكحكة أشهد لك برغيف. "إن جالك الطوفان حط ولادك تحت رجليك". إلى آخر هذه الفلسفات الكسيحة.
هذا الداء لا يحدث إلا فى المجتمعات التى تضيع فيها هيبة الدولة، وتنهار فيها سلطة القانون، ويساء فيها استخدام السلطة، وتترهل فيها القيادات فى المناصب لفترات طويلة (وصلت فى بعض الحالات إلى ما يقرب من خمسين عاما). وتتوارى فيه الرقابة الشعبية، وممارسة حق المساءلة، وكذا حرية النقد، وحرية والتعبير.
عاتبت شابا على ارتكابه تجاوزا بسيطا، ولكنه كان مثالا صارخا على الداء الذى ذكرت ( تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة )، فهاج وماج فى وجهى وهو يقول: تلومنى على هذا الأمر البسيط ولا تلوم التلاعب الذى تمارسه حكومتك عن طريق تزويرها الدائم للانتخابات بكل مستوياتها، مما ينتج عن هذا التزوير تصعيد أشخاص يعملون بكل ما أوتوا من أجل تحقيق مصالح النظام الخاصة على حساب المصالح القومية العليا للبلد؟
قلت له: يا سيدى هؤلاء ليسوا قدوتنا.
فقال لى: ومن إذا سيكون القدوة والمثل لنا معشر الشباب - بعد هؤلاء القادة والسادة ؟
قلت له: إن رسولنا الكريم علمنا منذ اليوم الأول لهذه الدعوة ضرورة أن يتحلى كل مسلم بضرورة تقديم الشأن العام على الشأن الخاص كل حسب استطاعته. وارجوا أن تسترجع معى إن شئت ذلك اليوم الذى استيأست فيه قريش من أن يُخلى أبو طالب بينها وبينه صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إليه، وقالوا له :
فليقلع ابن أخيك عن دعوته ونعطيه ما يريد.
إن أراد مالا جمعنا له حتى أصبح أغنى رجل فينا. وإن شاء ملكا ملكناه علينا. وإن أراد الشرف فينا، سودناه علينا. وإن كان مريضا، بذلنا له من أموالنا فى طلب الطب حتى يبرأ من مرضه.
وبعد هذا النزيف من الإغراءات الشخصية - التى يسيل لها اللعاب - جاءت مقولته المشهورة التى تعرفها أكثر منى : "والله يا عم لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه". ليعلمنا أن عز الأمم والأفراد والجماعات يكمن فى تقديم الشأن العام على الشأن الخاص.
لم أدر هل اقتنع الشاب أم لم يقتنع، ولكنى أنا الذى اقتنعت بخطورة غياب النموذج القدوة - المعاصر وليس التاريخى – من حياة الشباب. فانعدام القدوة من رجال السياسة والاقتصاد، ورموز المجتمع وقياداته، وكل من يتصدر للعمل فى مجال العمل العام فى بلادنا. أمر فى غاية الخطورة، أمر يجب أن يبرز إلى بؤرة اهتمام المسئولين عن أمن هذه الدولة الفكرى والثقافى والحضارى. وليعلم الجميع أن مثل هذه الآفات تتسرب إلى الوعى الشعبى العام كما يتسرب النوم إلى جفوننا، كيف؟، متى؟، لا حد يشعر.
إن نهضة أى أمة مرهونة بنسبة أولئك الذين يقدمون فيها الشأن العام على الشأن الخاص. كما أن نكبتها مرهونة بنسبة من يقدمون شؤونهم الخاصة على شأن الأمة العام.
والسؤال: هل لدينا الاستعداد للإقدام على ذلك كل حسب قدرته واستطاعته ؟
إن إجاباتنا على هذا التساؤل ما هى إلا استطلاع رأى صادق حول رغبتنا فى النهوض بهذا الوطن من كبوته، أم الاستمرار فى المعاناة التى نعيشها لأجل غير مسمى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة