عندما توفى السلطان حسين كامل فى 9 أكتوبر 1917 عرض الإنجليز عرش مصر على ابنه الأمير كمال الدين، لكنه رفض. وهو يعد أول إنسان يرفض حكم مصر. فمصر حكمها سهل جدا، ولا يمثل أى مشكلة.
ويستطيع أى إنسان – مهما كانت قدراته؛ أن يحكم مصر بنجاح. فالشعب المصرى طيب، ويقدس حكامه، وهذه عادة متوارثة من أيام أجدادنا الفراعنة. فقد أحب الشعب المصرى كل حكامه حتى القساة والظلمة منهم. أعجب الشعب المصرى بفاروق الملك، أعجبوا بشبابه ووسامته، وكان مضرب الأمثال فى الأحياء الشعبية، عندما يرون شابا وسيما يقولون زى القمر مثل الملك فاروق. وكانوا يبررون أخطاءه، فهو ابن ملوك ومن حقه أن يسهر ويعربد ويلعب القمار ويرافق النساء، وأحب الشعب المصرى محمد نجيب، أعجبوا بطيبته وتواضعه، وعندما عزله جمال عبد الناصر وحدد إقامته فى قصر زينب الوكيل بالمرج. قال الشعب إن محمد نجيب هو الذى اختار جمال عبد الناصر لخلافته بعد اشتداد المرض عليه، ومازلت أذكر صديقى المسيحى الذى كان يكبرنى بسنوات قليلة وكان يعمل عند خالى، وهو يحكى لى هذه الحادثة، وهو يمثل، إذ يضع يده ناحية شمال صدره، ويتخيل محمد نجيب وهو يقولها: فيه جمال عبد الناصر.
وكذلك فعلوا مع جمال عبد الناصر، أعجبوا بطوله وقسمات وجهه، ورجولته. وعندما عُين محمد أنور السادات نائبا لجمال عبد الناصر، اعترض صديق لى على هذا لأن السادات يرتدى بذلة بصفين، وقال لى: تخيل لو تولى الحكم، كيف يحكمنا رئيس يرتدى بذلة بصفين؟!
وتولى السادات الحكم، وظهر بعد سنوات قليلة من حكمه فى أزياء عديدة، مرة بملابس ريفية غالية الثمن، ومرة بملابس عسكرية أنيقة تشبه ملابس هتلر أيام الحرب العالمية الثانية، ومرات بالبدل الحديثة، وكنت أتذكر صديقى هذا الذى سافر إلى السعودية، تمنيت أن أقابله لأسأله عن رأيه فى ملابس رئيسنا الجديد. وسألت عن عنوانه هذا فى السعودية، لكى أرسل إليه رسالة لأخبره بأنهم اختاروا السادات – الذى لم تكن تعجبك بدلته أم صفين - من أشيك ثلاثة أو خمسة رجال فى العالم . سبحان مغير الأحوال.
لماذا يرفض الأمير كمال الدين حسين الحكم؟، لقد حكم والده السلطان حسين كامل ثلاث سنوات، ورأى بنفسه القصور العديدة فى القاهرة والإسكندرية وباقى مدن مصر التى عاش فيها والده، ورأى الخضوع الذى يبديه لوالده كل من تعامل معه من المصريين. فما الذى جعله يرفض كل هذا العز؟!
قد تكون الفترة التى حكم فيها والده هى السبب، إذ حكم فور بدأ الحرب العالمية الأولى. فكانت الحروب حول مدن مصر وقريبة جدا من القاهرة والإسكندرية. كما أن والده تعرض لأكثر من محاولة اغتيال لقبوله الحكم تحت رغبة الإنجليز. مرة فى 8 أبريل 1915 عندما أطلق شاب اسمه محمد خليل النار عليه فى شارع عابدين، لكن الطلقة أصابت إطار العربة التى كان السلطان يركبها.
وفى يوم الجمعة 9 يوليو 1915 بينما كان السلطان ذاهبا لصلاة الجمعة فى مسجد أبى العباس المرسى؛ رمى محمد نجيب الهلباوى قنبلة على موكبه أمام المنزل رقم 99 بشارع رأس التين بالإسكندرية (أمام ضريح سيدى يوسف الجعرانى)، لكن القنبلة سقطت تحت أقدام الخيل ولم تنفجر.
أم أن الحالة الاقتصادية فى البلاد جعلت الحكم صعبا، فقد كثرت فى وقت حكم والده جرائم تزييف النقود الفضية والورقية من الأجانب والوطنيين، وضبطت آلات التزييف فى عدد من القرى والمدن. وكذلك خطف النقود والملابس والمواد الغذائية من المارة والمحلات العامة، وكثرت السرقات واشترك فى السرقات بعض المتعلمين لأول مرة فى تاريخ البلاد. فمنهم المحامى وأرباب الشهادات من المتعطلين وبعض الموظفين.
أم أن الأمر متعلق بوالده، فقد رأى الأمير الشاب والده وهو يعانى من مشاكل الحكم، فآثر الابتعاد عنه. فقد نشرت الصحف فى عام 1917 إن الإنجليز جاءوا للسلطان حسين كامل، سلطان البلاد بأحد أطباء الأمراض العقلية، ليكشف عليه ويختبره، ولكن السلطان نهره وطرده من حضرته.
ونشرت الصحف الأجنبية أيضا: إن السلطان حسين كامل، سلطان مصر، عصبى المزاج، سريع الانفعال، مصاب بالأرق، لا ينام من ليله، إلا ساعة أو بعض ساعة.
لا أدرى لماذا لم يهتم أساتذة التاريخ الحديث فى مصر بشخصية الأمير كمال الدين حسين الذى رفض حكم مصر، تلك الشخصية الفريدة التى تستحق البحث والتنقيب ولماذا لم يكتبوا عنه، ويوضحوا لنا أسباب هذا الرفض، وهل كان محقا فى هذا، أم أن الأمر يتعلق بشخصيته هو. فربما ورث القلق والأرق من والده السلطان حسين كامل، فخاف المسئولية.
