عبد الناصر عبد الرحيم أحمد يكتب: المولد

الجمعة، 11 سبتمبر 2009 11:21 ص
عبد الناصر عبد الرحيم أحمد يكتب: المولد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان أسلافنا القدماء إذا مدحوا عصرا بانتعاش الحركة الأدبية فيه قالوا: هو عصر راجت فيه سوق الأدب. وإذا ذموه بضعف الحركة الأدبية فيه قالوا: كسدت فيه سوق الأدب. وسوق الأدب تعبير مجازى يشبهون به الحركة الأدبية بالحركة الاقتصادية فى الانتعاش والانتكاس . وإذا نظرنا إلى سوق الأدب فى عصرنا الحاضر ووازنا بينها وبين ما كان لدى أسلافنا القدماء وجدنا اختلافا كبيرا.

فقد كان لا يتعامل فى سوق الأدب عندهم فى الغالب إلا المتمكنون من الأدباء، وكانت أعداد المضاربين والمساهمين فى تلك السوق محدودة نسبيا. وذلك راجع إلى أن الأديب ما كان له أن يصل إلى مرحلة التمكن إلا بعد كفاح شديد ومعنى هذا أن الأديب كان يكوّن نفسه تكوينا جيدا قبل أن يغامر بالدخول إلى هذه السوق وإذا استعرنا لغة التجار فإن الأديب لم يكن يقدم على المضاربة فى سوق الأدب ما لم يكن لديه الرصيد الكافى الذى يؤهله لخوض المغامرة، وكانت وسائل الثقافة والتعليم محصورة، ومصادر المعرفة محدودة، وهى فى معظمها روايات شفهية، أو كتب خطية وكلا المصدرين يحتاجون إلى الجهد الشخصى من أجل أن يكوّن الإنسان ثقافته المناسبة وكان المتسبب فى سوق الأدب يتردد كثيرا فى أن يجلب إلى السوق بضاعة معيبة أو مغشوشة أو مزورة فإذا لم يكن لديه وازع ذاتى يمنعه من ذلك فلاشك أن مختبرات الجودة النوعية التى أقامها أولئك الأسلاف فى تلك السوق كانت قادرة على كشف الزيف ورد البضاعة وشطب إسم هذا المتسبب من قائمة المتعاملين فى هذا السوق .

ولقد فرضت فى سوق الأدب القديمة مواصفات ومقاييس كان الأسلاف يطبقونها على الأعمال الأدبية فما جاء منها موافقا لما وضعوه من هذه المواصفات أجازوه وقبلوه، وما كان منها منافيا لها ردوه ورفضوه إلا أن يكون فتحا جديدا أو اختراعا مبتكرا فإنهم يخضعونه للتجريب إلا أن تثبت صلاحيته أو يتأكد فساده. وما دام لدى أسلافنا القدماء ما يشبه الهيئة العامة للمواصفات والمقاييس فى سوق الأدب. فإن مما لا شك فيه أنه كان لديهم أيضا ما يوازى إدارة حماية المستهلك فالأعمال الأدبية تمر تحت أيدى المختصين فى تلك الإدارات المنتشرة على امتداد الوطن العربى والمكونة من كبار العلماء والأدباء فى حلقات الرواية والبحث والتعليم وكانت هذه الإدارات تصدر قراراتها بحرق الفاسد، وإتلاف المزور مما لا يتناسب مع المواصفات الأدبية المعتمدة لديهم . وقد استتبع النشاط فى سوق الأدب القديمة أن يصنف الأدباء حسب درجاتهم وطبقاتهم تماما كما تفعل وكالات تصنيف المقاولين فى عصرنا الحاضر .

وعن وكالات التصنيف الأدبى خرجت قوائم بأسماء الأدباء المعترف بهم حددت فيها درجاتهم وقيست فيها قدراتهم الفنية وأرصدتهم الأدبية ومن تلك القوائم فحولة الشعراء للأصمعى وطبقات الشعراءلإبن سلام الجمحى وطبقات الشعراء لإبن المعتز وأغانى أبى الفرج .. وغيرها من الكتب التى أخرجتها تلك الوكالات المختصة وأخيرا وقبل ذلك كله كان الأديب يقيس قدراته وإمكاناته قبل أن يخرج مشروعه الأدبى ويصنع ما يشبه دراسة الجدوى التى يجريها الاقتصاديون المعاصرون قبل أن يخرجوا مشاريعهم إلى مرحلة التنفيذ فإن وجد مردوده المادى والمعنوى جيدا أخرجه إلى النور وإلا طواه و تخلص منه. أما فى عصرنا الحاضر .. فإن سوق الأدب تزدحم بالمغامرين، وأكثرهم بلا أرصدة والمطروح فى السوق من البضاعة مزيج من الجيد القليل والغث الكثير وفى غياب مختبارات الجودة النوعية، وهيئات المواصفات، والمقاييس، وإدارات حماية المستهلك، وإحساس الأديب بضرورة دراسة الجدوى لما ينتجه من أدب، فى غياب ذلك كله أصبحت سوقنا الأدبية مثل مولد سيدنا الحسين.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة