أشعر بالخجل وأنا أكتب هذه الكلمات الآن فى مساحة كانت مخصصة لمحمود عوض، شرفتْ به أسبوعاً واحداً بعد تطوير شكل الصفحة الأخيرة، وشرفتُ أنا بأن أكون جاره فيها ولو لبضع يوم قبل أن يخطف الموت بدنه. لكننى فى الوقت نفسه أشعر بالفخر وبحجم المسئولية وأدعو الله أن يمكننى من أن أكون عند حسن ظنه.
ولأنه هو كان يخجل من الحديث عن نفسه، أرجو أن تأذن لى روحه الطاهرة بأن أتحدث أنا عنه فى غيابه مثلما تحدثت عنه دون إذن منه فى حضوره. وحديثى عنه يبدأ من حديثى معه على الهاتف قبل وفاته بأربعة أيام. كنت أريد أن أقول له: «رمضان كريم»، وأن أدعوه إلى إفطار قبل نهاية الأسبوع (فى اليوم الذى علمت بعد ذلك أنه كان يوم وفاته). قال لى: «رتَب وقوللى».
لكنّ المكالمة امتدت، مثلما اعتدت معه، إلى نحو ساعة كاملة وتطرقت إلى موضوعات شتى، يبرز من بينها موضوع بعينه جاء فى سياق سؤاله عما وصلت إليه استعداداتى لإطلاق برنامج تليفزيونى جديد على شاشة قناة «أون تى فى» ON TV. كان قد لاحظ أننى من وجهة نظره أحب «السباحة ضد التيار» وأنه، فى الوقت الذى تنتشر فيه ظاهرة الهجرة الجماعية من الصحافة المطبوعة إلى التليفزيون، أهاجر أنا فى الاتجاه العكسى.
يأتى تشجيعه لى على الكتابة انطلاقاً من إيمانه بأن الصحافة لا تتجزأ، وأن الصحفى الذى يحاول أن يكون جيداً فى وسيلة بعينها لا بد أن يكون قادراً على التحول إلى وسيلة أخرى شرط أن يلم بأدواتها ويفهم خصائصها التى تميزها عن غيرها. ولأن للتليفزيون متطلبات فنية أكثر تعقيداً من الصحيفة فقد أتى إشفاقه على الزملاء الذين بدأوا فى الصحافة المطبوعة أولاً ثم جذبهم التليفزيون فى مرحلة لاحقة أكثر من إشفاقه علىّ.
يستخدم نفسه مثالاً، فقد قص لى أثناء تلك المكالمة الأخيرة أن أسامة الشيخ، رئيس قطاع القنوات المتخصصة فى التلفزيون المصرى، عرض عليه وألح فى العرض أن يقدم برنامجاً كما يتراءى له بالشكل الذى يختاره بالميزانية التى يقررها. ومن الصعب أن نتخيل عرضاً من هذا القبيل يوضع أمام عملاق كمحمود عوض دون علم ومباركة وزير الإعلام على الأقل. وهو ما يُحسب لصالح من وقف وراء هذا العرض بغض النظر عن نتيجته.
لكنه اضطر فى النهاية شاكراً بصدق، كما قال لى، إلى الاعتذار عن عدم قبول الفكرة اعتقاداً منه، على حد قوله، بأنه غير ملم بأدوات التليفزيون. ذكّرنى هذا الموقف بموقف تعرض له الشاعر الراحل كامل الشناوى عندما سئل ذات يوم لماذا لا يؤلف كتاباً فقال إن الذى يتصدى لتحدٍّ من هذا النوع إما أن يكون عالماً فذاً لديه حقاً ما ينفع الناس أو عبيطاً لا يدرك معنى الكتاب «وأنا لا هذا ولا ذاك».
وتقديرى أن لموقف كهذا مجموعة من الأسباب تتعدى مجرد السبب العريض الذى ذكره، رغم أنه فى الواقع كان ملماً بأدوات التليفزيون إلى حد يفوق كثيراً ما يعرفه معظم هؤلاء الذين صاروا نجوماً ساطعة، ليس فقط فى قنوات مصر بل على مستوى العالم.
من هذه الأسباب، أولاً، أنه كان شديد الاحترام لمفهوم المهنية بصورة تقترب من الهوس الإيجابى، وهو دائماً مفهوم ضخم فى عينيه يبدأ بالأساس المتين وينتهى بالإتقان، مروراً بالتفانى فى كل صغيرة وكبيرة. وهو مفهوم كان يعتقد دائماً أنه ينقص كثيراً من المصريين.
ولأن العمل التليفزيونى عمل جماعى فى أساسه، بينما لا يشترط العمل فى الصحافة المطبوعة بالضرورة جماعية الأداء، فلا بد أن قلقه كان نابعاً من احتمال عدم قدرته على السيطرة على جميع أسباب النجاح المرتبطة إما بأداء الآخرين أو بظروف العمل بشكل عام.
ومنها، ثانياً، أنه كان شديد الإيمان بقدسية الكلمة التى تهبط من القلم كى تعانق صفحة الورق، بما يبثه هذا من هالة سحرية غامضة Mystique تدخل فى حوار شائق مع مخيلة القارئ وتحفظ للكاتب رونقاً يطل من بعيد كما يطل قوس قزح على امتداد الأفق.
ومنها، أخيراً، أنه كان لاذع الانتقاد لتجربة محمد حسنين هيكل على التليفزيون رغم أن الإمكانات التى توفرت لنجاحها إمكانات غير مسبوقة. وتلك قصة أخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة