«إنهم أبناء يهوذا وأتباعه ويفعلون بأبناء المسيح والكنيسة، أكثر مما فعله يهوذا بيسوع» مجرد كلمات تحمل فى طياتها تهمة جاهزة، مثلها مثل تهمة التكفير لدى المتشددين من المسلمين، فبإمكانك أن تتهم شخصا فى الكنيسة بالخيانة لأنه خالف تقاليد الكنيسة أو تحدث عن خليفة البابا، سيتحول هذا الشخص فى لحظة من مواطن مسيحى إلى يهوذا الإسخربوطى الذى خان المسيح وباعه لليهود بعدما كان أقرب الناس إليه، حسبما ينقل لنا التراث القبطى، ولكن حتى هذه المقولة مختلف عليها، فهناك كثيرون يبرئون يهوذا من تهمة الخيانة وهو الرأى الذى يصدم المتدينين دائماً.
الآن عادت الرياح المحملة باتهامات الخيانة لتهب على الكنيسة، تستطيع أن تعرف ذلك بنظرة صغيرة لما يجرى داخلها بعد نبوءة صغيرة سرت كالنار فى الهشيم، لتلحق هذه النار بأطراف ثياب البابا شنودة ومن حوله من المعاونين، وازدادت النار اشتعالاً لتتحول إلى اتهامات متبادلة بالخيانة ومطالب بالفصل من المناصب الكنسية، فمنذ ثلاثة أسابيع، خرجت إشاعة لتقول إن أحد الكهنة رأى فى منامه رؤيا بأن البابا شنودة سيموت فى يوم 22 أغسطس، وهو أول أيام شهر رمضان، واكتملت الرؤيا بأن صاحبها رأى نفسه يعتلى الكرسى الباباوى خلفا للبابا شنودة، ليتظاهر على أثر هذه الإشاعة ما يقرب من 700 كاهن بالكاتدرائية، وكعادته آثر البابا الصمت وبدا وكأنه يترفع عن الرد على مثل هذه الأمور، واكتفى بأن يصطحب فى رحلاته البابا يؤانس والذى ارتبط اسمه بالشائعة، وهو الأمر الذى قطع الطريق مبكراً على مادة جيدة للنميمة حول خليفة البابا وصحته ومن يصلحون من بعده.
ورغم النفى وخفوت نيران الشائعة فإن الدائرة لم تخل من أسئلة وإشارات تعيد اشتعالها مرة أخرى، وكان أبرز هذه الإشارات سؤالا وجهه أحد أبناء الشعب المسيحى للبابا حول ما إذا كان الرب يقبل توبة يهوذا الخائن، فى إشارة خفية للمسئول عن تسرب شائعة نبوءة وفاة البابا والذى يظل مجهولاً حتى الآن، وفى إجابته عن هذا السؤال قال البابا شنودة «السيد المسيح صرح أكثر من مرة بهلاك يهوذا» فقال فى حديثه الطويل مع الأب «الذين أعطيتنى حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب» (يو12:17). وهكذا سمّى يهوذا (ابن الهلاك)، وأضاف البابا أن السيد المسيح قال لتلاميذه «ابن الإنسان ماضٍ كما هو محتوم، ولكن ويل لذلك الإنسان الذى يسلمه» (لو 22:22). وأضاف أيضاً «كان خيراً لذلك الرجل لو لم يُولد» (مر 21:14)، بل وزاد البابا فى نفس العظة بالحديث عما أسماه «حنو الله» بقوله «عندما يفكر الإنسان فى حب الظهور والشهرة، فيجب أن يتذكر خطاياه ويؤنب نفسه، العناصر الأساسية للاستمرار فى التوبة هو أن يبعد نفسه عن الأسباب التى تؤدى إلى سقوطه».. وجميعها إشارات تتوالى، فهمها من حضروا العظة كل حسب نيته.
لم يرد اسم الأنبا يؤانس مقترنا بهذه الشائعة من فراغ فعندما نتحدث عن خليفة البابا شنودة على الكرسى الرسولى فستقفز أمامك 3 أسماء من بينها اسم الأنبا يؤانس سكرتير البابا الشخصى، والاثنان الآخران هما الأنبا بيشوى سكرتير المجمع المقدس، والأنبا موسى أسقف الشباب، لذلك فرغم أن اسم الأنبا يؤانس لم يعلن بشكل صريح فى الأزمة فإن البابا شنودة أصر على اصطحابه إلى الإسكندرية، ولكن القدر لم يمهل هذا النفى كثيراً فقد كانت الشائعة سبباً فى فتح جروح قديمة داخل البناء الكنسى، تتمثل فى الأصوات المطالبة بتعديل لائحة انتخاب البابا التى تعود لعام 1957، لدرجة أن الأنباء تواترت من داخل الكنيسة بأن هناك تفكيرا جديا لدى البابا بعد هذه الشائعة فى تعديل اللائحة، وقد صرح بالفعل من قبل لجريدة الأهرام بأنه ليس ضد تعديل لائحة انتخاب البابا، وعلق بقوله «هذا موضوع يطول شرحه».. وكان آخر من قيل فى هذا الأمر هو المستشار لبيب حليم، النائب الأسبق لرئيس مجلس الدولة، بتبنيه لمشروع لائحة جديدة لانتخاب بطريرك الكنيسة القبطية، تحل محل اللائحة الحالية والمعمول بها منذ عام 1957، وكان أهم ما فيها أن يزيد سن المرشح على 50 عاماً وأن تزيد مدة الرهبنة التى يجب أن يقضيها المرشح فى الدير على 25 عاماً ولا يعتد بأى مدة يقضيها خارج الدير.
الحديث عن خلافة البابا هنا سبب كاف للاتهام بالخيانة وهو الاتهام الذى خرج من محيط الأنبا يؤانس ليقفز فى حجر الدكتور ثروت باسيلى، عضو المجلس الملى، والذى نسبت إليه تصريحات بعد الأزمة مباشرة مفادها أن البابا يخالف قوانين الكنيسة ويطالبه فيها بتعديل لائحة انتخاب البطريرك، وهو الأمر الذى دفع المحامى ممدوح رمزى ليشن هجوما قاسيا على باسيلى مطالبا بفصله من المجلس ومتهما إياه بالوصول إلى منصبه بشكل غير قانونى، بل وقال عنه بالحرف الواحد «د.ثروت باسيلى أصبح وجوده مستحيلا نظرا لما بدر منه تجاه البابا شنودة الثالث الذى يمثل الشرعية فى الكنيسة، وأن البابا صاحب الفضل عليه لأنه قبل سنة 1995 لم يكن يعرفه أحد لولا أن البابا رفعه إلى جواره، وحينما ظهر نجمه حصل على مكاسب سياسية واجتماعية، وكان أول هدف للدكتور ثروت باسيلى هو أن يطغى على قداسة البابا ويهمش الدور الفاعل له وللكنيسة» بل ووصل إلى ذروة الاتهام بقوله أن باسيلى شخصية «مفروضة» على الكنيسة واتجاهاته «بروتستانتية».. وجميع هذه الاتهامات نفاها باسيلى فى حواره الأخير لـ«اليوم السابع» حيث أكد أنه لا يد له فى إشاعة وفاة البابا، كما نفى إدلاءه بالتصريحات التى نسبت له، مؤكداً على قناعته بأن الله وحده يختار البابا.
ليست الخلافة وحدها هى التى تكون سبباً للاتهام بالخيانة فى الكنيسة فهناك أيضاً ما يسمى «الأسرار الكنسية» وهى خارج نطاق المحاسبة، وفقا للقانون رقم 462 لسنة 1955، وهو ما تم تطبيقه على المكرسة إيفلين ألفونس والتى عوقبت بالحرمان من ممارسة الأسرار الكنسية بسبب ارتكابها جريمة «خيانة الأمانة»، وهى تهمة تحدد حسب النظام الداخلى للكنيسة ولا يؤخذ فيها بأحكام القضاء.
كل الأسباب الأخرى للحديث عن الخيانة تحدث داخل الكنيسة، أما خارجها فالأمر يختلف قليلاً حيث تتعدد وجهات النظر فى الاتهام بالخيانة، فهل يصدق أحد أن هناك من يتهم شخصيات مثل المفكرين الأقباط جمال أسعد وكمال زاخر، بخيانة الكنيسة والشعب القبطى، بل أنهم أيضاً حصلوا على الثمن فى صورة منافع شخصية لهم من الأجهزة الأمنية «الإسلامية» كما يسميها البعض، كما أن هناك من يتهمون بخيانة الكنيسة لصالح أطراف خارجية مثلما قيل عن ماكس ميشيل وقس يسمى هابيل بمصر القديمة.
والآن ومع قرب موعد إضراب فئة من الأقباط المعارضين فى 11 سبتمبر الجارى، بحسب دعوى أطلقها عدد منهم على شبكة الإنترنت، تبدو الساحة «القبطية» ممهدة تماما لتبادل تهم الخيانة، فالآراء مازالت متباينة ومتضاربة حول مسألة مشاركة فصائل الأقباط فى الإضراب، كما أن الكنيسة، التى تمثل الموقف القبطى الرسمى، ترفض تلك الدعوى وتكاد تنعت القائمين عليها بأنهم خونة، فى حين يتهم المؤيدون لدعوى الإضراب السياسيين الأقباط الذين سيأخذون بموقف الكنيسة بأنهم خانوا مطالب المسيحيين.