هل رأيت هرماً مقلوبًا من قبل؟
كان أول هرم مقلوب رأيته فى مصر، وهو مبنى مميز لأحد قصور الثقافة (ربما قصر ثقافة الفيوم أو بنى سويف، لا أذكر تماماً)، هذا الهرم المقلوب يعد أحد المبانى اللافتة للنظر، وأعتقد أن مصممه فاز بجائزة مهمة فى مجال التصميم المعمارى.
عندما رأيت المبنى ظننت أننى لن أرى مثيلاً له فى حياتى، لكنى إذ أتيت إلى الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية فاجأتنى رؤية عدة مبان تتخذ شكل الهرم المقلوب أو تستوحيه بدءًا بمبنى وزارة الداخلية ثم مراكز تجارية وواجهات محلات صادفتنى كلها فى يوم واحد وجولة واحدة فى شوارع الرياض حتى بدا لى الأمر وكأنه ولع سعودى بالأهرام المقلوبة، فاستفسرت من أحد المواطنين الذى ضحك وقال: ربما بنخالف إخواننا المصريين؛ وهنا سألت نفسى: هل يجدر بأى أمة ناشئة مخالفة المصريين القدماء فى عمارتهم؟
أوليس البقاء (الخلود مجازًا) هدفاً أساسيًّا لكل إنجازات البشرية؟ إذًا، من يملك– كالمصريين– دليلاً واضحاًعلى قدرة منجزاته لتحقيق هذا الهدف. إن عمارة المصريين ظلت باقية على مر آلاف السنين، وحافظت على شموخها ورونقها حتى اللحظة، بينما بقيت آثار معظم الأمم الأخرى كمرويات فى الحكايات أو بقايا تدل من يتدبرها أن حضارة كانت هنا ومر الزمن بها فأفناها.
وهنا نتساءل عن الفرق الرئيسى بين منجزات الأمم المختلفة ومعجزات الفراعنة، المصريين القدماء؟ إنه ببساطة حكمة المصريين التى جعلتهم يسايرون الطبيعة من حولهم بدلاً من الثورة عليها، مفضلين القوة على الرقة، والحقيقة على الدقة، والخلود على الجمال.
إن تصميم الهرم المقلوب ثورة على الطبيعة، فهو نوع من المخاطرة، يرمز للأنثى ويشير إلى انعدام المنطق.. فمجرد جلوسنا ونحن صغار فى شرفات منازلنا البارزة عن أصل المبانى كان يمثل لنا قلقاً دائماً لإحساسنا أننا نجلس فوق الهواء (الفراغ)، ما بالك بمن يجلس فى آخر دور من هرم مقلوب وهو يدرك أنه يجلس فوق فراغ بارز عن فراغ يبرز بدوره عن فراغ آخر إلى آخر هذه الفراغات والبروزات المتكررة، ألا يمثل ذلك مخاطرة يومية تجعل المرء يسأل نفسه عن ما أراده المصمم المعمارى بهذا الشكل، هل يهدف لما يريده البناؤون فى مصر من استغلال مساحة أكبر للأدوار العليا؟ لكن الحقيقة ليست كذلك؛ لأنك إذا فكرت فى شكل المبنى تجده لا يمثل زيادة فى مساحة الأدوار العليا، بل اقتطاعاً من الأدوار السفلى، مما يعنى وجود مساحة كبيرة كان بالإمكان استغلالها، أضف إلى ذلك أن الأراضى بالمملكة متاحة وكثيرة فلا حاجة للتوفير فى أصل المبنى.
نعود إذاً للرمز الذى يمثله الهرم المقلوب أو الأشكال المستوحاة منه؛ الأنوثة؛ هذا الشكل يمثل بوضوح الكأس ذلك الرمز الذى طالما أشار إلى الأنثى من قديم الزمان، لكن وضعه هنا هل يحوى دلالة ما خاصة إذا أخذنا حالة كمبنى وزارة الداخلية الذى يتضح فيه الرمز بشكل واضح وغير قابل للشك، لماذا أراد مصمم المبنى على احتواء مبنى كهذا على رمز كذلك؟
أليست وزارة الداخلية فى معظم دول العالم، وخاصة العالم العربى، متميزة بذكورية مفرطة وهى أبرز إداراتها تتعلق بالشرطة والبحث الجنائى والتحقيقات والاعترافات والجريمة والعقاب (أحياناً)، أى أنها بعيدة كل البعد عن التوافق مع رمز الأنوثة هذا، خاصة فى مدينة كالرياض لا ترى النساء كثيراً فى شوارعها؛ فهن حتى عندما يخرجن إلى الشارع يجلسن عادة فى مقاعد السيارات الخلفية يحيطهن الزجاج المعتم، فإذا ذهبن إلى حديقة عامة كان ذلك فى أيام مخصصة للنساء والحدائق هنا وأماكن الفسحة مقسمة إلى أيام للنساء وأخرى للرجال وثالثة للعوائل.
أضف إلى ذلك أن الرياض ملأى بالعمال الأجانب الذين يأتون من كل بقاع الدنيا وخاصة وسط وشرق آسيا، وهم لا يحضرون زوجاتهم أو بناتهم معهم نظراً لضعف رواتبهم من ناحية واستغلال الكفلاء لهم حيث يطالبونهم بمبالغ كبيرة نظير السماح باستقدام الزوجات، وهو حق للكفيل تبعا للقانون السعودى، وحتى إن دفعوا هذه المبالغ وأتوا بنسائهم؛ فذلك يعنى تعريضهن لتصرفات غير لائقة من قبل المواطنين وخاصة الشباب الذين لم يعتادوا احترام النساء عامة والأجنبيات على وجه الخصوص؛ لذلك فهؤلاء العاملون يفضلون قضاء أيامهم فى الرياض كمن يقضى عقوبة فى سجن، وحداء ينامون تماماً كالمساجين فى غرف أشبه بالعنابر مع فارق وحيد، إن هذا السجن له حوش (فسحة) واسع جداً وشديد الحرارة.
إذا لماذا بقيت هذه الإشارة للأنثى فى مبنى كهذا ووسط مدينة كهذه، ألا يبدو ذلك غير منطقى؟
الإجابة، لا؛ فالشكل اللامنطقى للهرم المقلوب، والرمز للأنثى التى تميزت دائماً بلا منطقيتها، يبدوان كتعبير منطقى تماماً عن افتقاد قطب هام جداً لاستمرار الحياة.
إن رمز الأنثى يخلق نفسه فى المكان المناسب له تماماً، حيث يفتقده عالم كامل محيط به.. عالم من الذكور.