هو واحد من الذين حاولت فهمهم مبكرا، فى رحلتى المستمرة لفهم العقل الأمريكى الحاكم بالمعنى الشامل، أولا بحكم الضرورة.. فأمريكا قوة مهيمنة فى الساحة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل.
هو أيضا نموذج عملى لمأزق أمريكا عالميا منذ سنة 1945، مأزق كلاسيكى للقوى العظمى حينما تكتشف بعد فوات الأوان أنها مصائب عظمى، ليس فقط للعالم، ولكن لشعبها أولا.
شخصيته كانت تحيرنى أحيانا بقدر ما حيرتنا السياسات الأمريكية فى منطقتنا والعالم غالبا، هو ذكى وليبرالى وطموح ومتفوق، وأمريكا بلده غنية وقوية وطموح ولديها الكثير من أفضل الأشياء التى تستطيع عملها لنفسها وللآخرين ومع ذلك فهى تختار الأسوأ بين فترة وأخرى. وبالتعبير الساخر للزعيم البريطانى الراحل ونستون تشرشل: أمريكا تحب كثيرا أن تجرب أولا كل الحلول الخاطئة.. قبل أن تتجه إلى الحل الصحيح.
هو عاش النصف الأول من عمره (93 سنة) يؤمن إيمانا جازما بأن كل التصرفات البشرية يجب قياسها بالأرقام، وانتهى فى النصف الثانى من حياته ممزقا نفسيا بعد أن رأى أن بلده من حيث الأرقام ربما هو الأغنى والأقوى فى العالم، ومع ذلك تعرض للهزيمة والإذلال على يد واحدة من أفقر وأضعف دول العالم.
أتحدث عن روبرت ماكنمارا الذى رحل فى هدوء فى 6/7/2009 بعد أن عاش صامتا معظم مراحل عمره، وحينما تكلم وأصدر مذكراته وبعض اعترافاته فى كتاب سنة 1995 كان يقدم اعتذارا لضحاياه أو بالدقة: ضحايا سياسات وحروب أمريكا وإن يكن بعد عشرين سنة من نهاية مأساة حرب فيتنام كلها.
ماكنمارا كان واحدا من المجموعة «الأذكى والألمع» التى اختارها الرئيس الراحل جون كنيدى لتشغل المناصب الرفيعة فى إدارته اعتبارا من يناير 1961، حتى تلك النقطة كان ماكنمارا قد عمل مديرا لشركة فورد للسيارات وطور الإدارة فيها جذريا بإدخال نظم مستجدة لحساب التكلفة كان قد استخدمها بفعالية حينما عمل ضابطا بمكتب التحليل الإحصائى بالقوات الجوية الأمريكية ما بين 1943/1945، كنيدى اختاره أولا وزيرا للمالية لكنه استقر فى النهاية على تعيينه وزيرا للدفاع. ربما لأن المؤسسة العسكرية الأمريكية كانت قد توحشت فى ميزانياتها وبرامجها التسليحية وقواعدها العسكرية بما يهدد بفقدان السيطرة السياسية عليها، ربما أيضا لأن سلفه الرئيس دوايت أيزنهاور كان قد حذر فى خطابه الوداعى إلى الشعب الأمريكى من النتائج الوخيمة من تحالف المجمع العسكرى/ الصناعى على مستقبل أمريكا.
لكن ماكنمارا عاش أولا فى الواقع، هناك مجموعة من المستشارين العسكريين كانت إدارة جون كنيدى قد أرسلتها إلى فيتنام الجنوبية فى 1961 لمساعدة حكومتها فى مواجهتها لتمرد ثوار «الفيتكونج» الشيوعيين.. فى اعتقاد جازم بأن أولئك الثوار هم صنيعة فيتنام الشمالية التى هى بدورها صنيعة للصين والاتحاد السوفيتى والشيوعية الدولية، إنها سنوات الحرب الباردة وأمريكا ترى نفسها مكلفة من السماء بمواجهة أشرار العالم لأنها الوحيدة الممثلة للأخيار فى هذا الكوكب. كان هناك أيضا إيمان جازم فى المؤسسة السياسية الأمريكية بنظرية «قطع الدومينو» حيث لو جرى السماح لأى نظام موال للغرب بالسقوط أمام الشيوعية والشيوعيين فستنتقل العدوى إلى الدول المجاورة ليسقط كل منها تلو الأخرى وتصبح الشيوعية الدولية هى المنتصر الأخير.
منذ البداية كان التشخيص الأمريكى للموقف فى فيتنام خاطئا، لكن سنوات توالت، وكثير من الدماء أريقت وملايين من الضحايا سقطوا قبل أن تفيق أمريكا على الحقائق الفعلية، كان ماكنمارا مؤمنا بحسابات الأرقام وبأنها لا تخطئ أبدا، وأصبح يساير المؤسسة العسكرية فى طلباتها المتلاحقة بزيادة أعداد القوات الأمريكية المقاتلة فى فيتنام الجنوبية لحسم الحرب نهائيا، وهكذا فإن من بدأوا كمستشارين محدودى العدد فى 1962 أصبحوا 210 آلاف جندى بنهاية 1965 وارتفعوا إلى 325 ألف جندى بحلول يوليو 1966 و410 آلاف فى ديسمبر من نفس السنة، وفى نهاية المطاف بلغوا 540 ألف جندى فى 1968.
وباعتباره عاشقا للكمبيوتر ولغة الأرقام كان ماكنمارا كوزير للدفاع مستمرا فى منصبه بعد اغتيال جون كنيدى فى ظل إدارة خلفه ليندون جونسون، كان متأكدا تماما بأن قوة بلاده المجردة كفيلة بانتصارها النهائى فى حرب فيتنام، كان يقيم مؤتمراته الصحفية فى واشنطن بين فترة وأخرى ليقدم للرأى العام بيانات وإحصائيات وخرائط يشرح عليها الأرقام، يشرح كم تم أسرهم من جنود العدو وكم تم قتلهم وكم من الذحيرة والأسلحة تم نسفها.. إلخ. من هنا سمى المجتمع السياسى فى واشنطن حرب فيتنام وقتها بأنها «حرب ماكنمارا»، هو نفسه لم يجد بأسا فى ذلك إلا بعدها بسنوات.
وكان المجتمع الأمريكى يكتشف يوما بعد يوم أن شبابه يموتون فى تلك المنطقة من آسيا فى حرب لم يقتنع أبدا أن الخروج منها هزيمة لأمريكا، وما جعل الغليان يتزايد فى حينها هو حقيقة أن أمريكا تأخذ بنظام «التجنيد الإلزامى» بما جعل قاعدة التجنيد تمتد من سقف المجتمع إلى القاع، وبدأ كثيرون من الشباب يسلكون طرقا ملتوية للتهرب من الذهاب إلى فيتنام، بيل كلينتون مثلا أنقذته منحة للدراسة فى بريطانيا، جورج بوش الابن كفل له نفوذ أسرته الجمع بين الحسنيين: الإذعان للتجنيد ولكن مع قضاء فترة تجنيده بالحرس الوطنى، يعنى الدفاع المدنى، داخل أمريكا.
لكن مئات الآلاف الآخرين من الشباب لم يكن لديهم مثل تلك الرفاهية، ومئات الآلاف من طلبة الجامعات بدأوا يتظاهرون احتجاجا على حرب فيتنام مطالبين بالانسحاب. ماكنمارا نفسه، وبسبب قنابل النابالم الحارقة التى تستخدمها القوات الأمريكية فى فيتنام رغم أنها محرمة دوليا انتشرت عنه صفة «حارق الأطفال»، بل إنه شهد على شاشة التليفزيون مظاهرة شبابية غاضبة تضم ابنه هو.. الطالب فى جامعة هارفارد، وشهد أيضا جاكلين كنيدى أرملة الرئيس جون كنيدى وهى تدق صدره بقبضة يده صارخة فيه «أوقفوا هذه المجزرة»، كان الجميع واثقين من أن جون كنيدى لو لم يتم اغتياله لما كان سيسمح مطلقا بتصاعد التورط الأمريكى فى فيتنام إلى هذا المستوى، لكن ليندون جونسون خليفته فى البيت الأبيض سمح بذلك ودفع إليه لأن جهله المطبق بالسياسات الدولية جعله أسيرا للمؤسسة العسكرية التى لا تعرف فى قاموسها سوى لغة القوة السافرة فى العلاقات الدولية.
وفى سنة 1968 غادر ماكنمارا منصبه كوزير للدفاع فى وضع محير: هل أقيل أم استقال؟ كانت هناك قرائن على الإقالة، حيث كان القريبون منه يعرفون أنه من قبلها بتسعة أشهر كان قد كتب مذكرة سرية إلى الرئيس جونسون يقول له فيها «إن صورة القوة العظمى الأضخم فى العالم وهى تقتل أو تصيب بالعجز ألفا من غير المقاتلين كل أسبوع بينما هى تحاول سحق دولة صغيرة متخلفة لترغمها على الخضوع والإذعان فى قضية صحتها محل جدل.. ليست صورة براقة».بالطبع ماكنمارا يشير هنا إلى ما كانت أمريكا تفعله من البداية: قصف وحرق مدن وقرى فيتنام الشمالية (الشيوعية) بحجة أن هذا هو ما يرغمها على وقف مساعدة قوات الفيتكونج المتمردة داخل فيتنام الجنوبية، لكن من ناحية أخرى هناك ما يرجح خروج ماكنمارا مستقيلا، حيث أنعم الرئيس جونسون عليه بميدالية الحرية، أرفع وسام أمريكى، تكريما له.. وأيضا تعيين ماكنمارا رئيسا للبنك الدولى بترشيح من إدارة جونسون، وهو منصب رفيع تحرص أمريكا باستمرار على أن يكون شاغله مضمون الولاء بالكامل، ليس فقط للسياسات الأمريكية، وإنما أيضا لمصالح الشركات الأمريكية الكبرى.
سواء أكانت إقالة أم استقالة فقد نعم ماكنمارا بمنصبه الرفيع فى البنك الدولى حتى سنة 1981 محتفظا بصمته الكامل قبلها وبعدها عن حقائق حرب فيتنام كما عرفها.. والتى انتهت فى خاتمة المطاف بالانسحاب الأمريكى المذل من سايجون فى 1975 وتاليا بتوحد شمال وجنوب فيتنام فى دولة واحدة عاصمتها هانوى.
لم يخرج ماكنمارا عن صمته إلا بعد ذلك بعشرين سنة، عبر كتاب أصدره فى 1995 بعنوان «نظرة إلى الوراء: كارثة فيتنام ودروسها».. وكذلك عبر حوارات معه فى ندوات الترويج للكتاب، أخيرا يصف حرب فيتنام بأنها كانت «خطأ شنيعا».. ثم اعترافه المباشر قائلا: «أمرت بضرب فيتنام الشمالية ضربا قاسيا رغم أنى كنت أعرف أن ذلك لن يقودنا إلى النصر، وذلك لسببين: أولا لنقتنع بأن الضرب لن يقودنا إلى نصر، وثانيا لأن آخرين قالوا إن الضرب سيقودنا إلى النصر». هل هذا يبرر مقتل 59 ألف أمريكى بخلاف ملايين الفيتناميين؟
هو تحدث فى الكتايب -الاعتراف- عن 11 درسا من حرب فيتنام، لكنه كان أكثر صراحة فى الحوارات الموازية التى جرت معه، لقد ذكر بوضوح أن ما فعلته أمريكا فى فيتنام والمنطقة كان عربدة وحالة جنون حيث: «أسقطنا على تلك المساحة الصغيرة أطنانا من القذائف والقنابل تتجاوز ثلاثة أو أربعة أضعاف كل ما أسقطه الحلفاء على كل جبهات الحرب العالمية الثانية طوال خمس سنوات، كان شيئا لا يصدق، نحن قتلنا ثلاثة ملايين و200 ألف فيتنامى بغير أن نحسب من سقطوا قتلى من قوات فيتنام الجنوبية، المشكلة هى أننا كنا نحاول عمل شىء مستحيل عسكريا، كنا نحاول كسر إرادتهم، ولا أعتقد أن بمقدورنا كسر الإرادة بالقصف إلا إذا انتقلنا إلى مستوى الإبادة البشرية».
وأمريكا عجزت عن كسر إرادة فيتناميين كانوا يقاتلون من أجل الاستقلال الوطنى، بينما أقنعت المؤسسة الحاكمة الأمريكية نفسها بأن الصراع هو لإنقاذ فيتنام الجنوبية والدول المجاورة من براثن الشيوعية الدولية، وماكنمارا يرى أن الأمر كله كان أكذوبة من البداية، والأكذوبة أساسها الجهل المطبق بعد أن كان قد تم إبعاد الخبراء والمتخصصين بتلك المنطقة خلال سنوات المكارثية.
وفى إحدى ندوات مناقشة كتاب ماكنمارا سأله شاب أمريكى مذهولا: هل يعقل ونحن القوة الأعظم فى العالم أن نشن حربا على بلد ونحن جاهلون به وبثقافته؟
ورد عليه ماكنمارا: يا بنى إنى أتحدث عن حقائق، لكن حتى لا نغوص فيما مضى فإننى الآن أقول أمامكم جميعا.. إننى أقرر على مسئوليتى أنه فى اللحظة الراهنة لا يوجد قرب وزير الخارجية أو وزير الدفاع أو حتى فى البيت الأبيض خبير واحد بالمسلمين وتاريخهم وثقافاتهم وطموحاتهم,, وهو ما يجعلنى مهموما.. ليس فقط بكارثة حرب فيتنام.. ولكن بكوارث أخرى محتملة فى مناطق أخرى.
كلمات قالها ماكنمارا فى 1995.. وكأنه كان يقرأ المستقبل من كتاب مفتوح.
هو أدرك بعد فوات الأوان أن حسابات الكمبيوتر والأرقام ليست بالضرورة ضمانا للنصر، هناك معان وقضايا لا يصلح الكمبيوتر لفهمها.. ولا لغة الأرقام لتفسيرها، معان بمستوى رغبة شعب فى الاستقلال الوطنى.. فى الوحدة.. فى العزة.. فى الكرامة، لقد كانت تلك المعانى هى التى تجعل شعبا فقيرا وضعيفا فى فيتنام يتحمل كل تلك التضحيات الفادحة التى فرضتها عليه قوة عظمى بحجم أمريكا، لم تكن الشيوعية هى الدافع مطلقا، وهى على أى حال لم تنتشر بعد هزيمة أمريكا فى فيتنام إلى أى دولة أخرى.. مجاورة أو غير مجاورة.
ماكنمارا أدرك ذلك فى خريف حياته، لكن بلاده لم تدرك، ومن هنا فقد خرجت أمريكا بحروبها ومصائبها إلى بلاد ضعيفة وفقيرة أخرى.. من أفغانستان إلى العراق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة