مَعْلمْ شديد الخصوصية ورمز مجرد خالص للإنسانية الأولى التى لم يشُبها كدر ولم يعكر صفوها عارض، هو الإنسان فى أبسط صوره ..!
اسمه عم إبراهيم أو " عَمْبَرَاهيم " مباشرة بدون ألف، كذلك ينطقها الأطفال وأبناء الشارع والمعارف والجيران ..
لم ينل حظاً من تعليم المدارس ولكنه تعلم فى مدرسة الحياة ونال منها أعلى الدرجات، نجلس إليه فلا نشعر بالوقت، نحدثه ويحدثنا كأننا أقرانه أو أصدقائه المقربين برغم مايحمل فوق عاتقه من سنين وهموم وخبرات وتجارب، فهو جد لما يربو فوق الثلاثين طفلاً وشاباً ، وكثيراً ما داعب أحفاده ولعب معهم وحملهم على أكتافه وتباهى بهم ... كان يحدثنا ويقول "عندما كنت فى مثل سنكم كنت أعمل بالأفران، وكنت أعشق تلك المهنة جداً حتى أن لعبى وأوقات فراغى كنت أقضيها فى السمر مع أصحابى عمال الفرن، وقد عقدنا الرهان ذات مرة على رفع جوال دقيق من على الأرض فلم يستطع أحد منهم ، ورفعته أنا لأعلى _ بأسنانى _ وفزت بالرهان قرش صاغ " !!
كان سعيداً وهو يحكى لنا ذكرياته الخاصة، وكنا نشعر معه بالزهو والسعادة أيضاً عندما يحكى لنا بطولاته وفتوة شبابه ... وكان عم إبراهيم يمتلك حس الدعابة وروح المرح والسخرية أيضاً ، يحكى لنا يوماً..
" كنا فى فايد بالإسماعيلية قبل أن يتم تهجيرنا ، وكانت زوجتى تؤمن جداً بالخرافات والأعمال السفلية وشكت لى يوماً أنها محسودة وأن الشفاء حتماً على يد شيخ، فطمأنتها ووعدتها أننى سوف إلى أذهب إلى هذا الشيخ وأحضر لها ما يصفه من دواء ... وبعد فراغى من وردية العمل بالفرن لمحت بعينى دفتر حسابات قديم ملقى فى ركن يعلوه التراب وتذكرت الوعد الذى وعدته لزوجتى بشأن الذهاب للشيخ، وفى الحال قطعت أول ورقة من الدفتر وصنعت منها حجاباً محكماً ثم أعطيته لها عند رجوعى إلى البيت ونسيت الحكاية، وبعد يومين أخبرتنى أم العيال أن الحجاب فيه الشفاء وأن هذا الشيخ حتماً رجل مبروك" !!
كان يحكى ولا نملّ، ويضع السيجارة فى فمه ويشد أنفاساً ويسعل كثيراً ثم يعاود الحديث، كان التبغ يعطى لحديثه مذاقاً مفعماً بروح التاريخ، ورائحة التبغ المحترق تصنع جواً خاصاً من الشوق والترقب عقب كل نفس وحين انتظارنا فى شغف حتى ينفخ الدخان فى الهواء ...
فى صباح كل يوم جمعة كان عم إبراهيم _ على الرغم من مجاوزته الثمانين _ يحلق ذقنه تاركاً جروحاً ظاهرة على بشرته، ويرتدى جلباب الصلاة ثم يضع شاله الأبيض المزهّر على دماغه بطريقة خاصة تظهر جبهته وتغطى عنقه من الخلف بحيث يتقى حر الصيف وبرد الشتاء ويتجه إلى الجامع الكبير مبكراً ليجلس فى مكانه.
المفضل أسفل أحد الشبابيك، وفى طريق عودته للبيت يلتقط عم إبراهيم ثمرة بطيخ أو حزمتى فجل وبصل أخضر وبعض الخبز من الفرن المجاور للجامع ... فعلى الرغم من كبر سنه وكثرة أولاده وأحفاده كان عم إبراهيم أفضل من يشترى الخبز، والشخص الوحيد المسموح له بدخول أى فرن وانتقاء ما يروق له من الأرغفة دون انتظار لدور أو وقوف أمام بائع، فهو عم إبراهيم أشهر من عمل فى الأفران وأمهر من طرق المهنة فى البلد ... يكفى أنه أمضى فترة شبابه فى فرنىّ" معوَّض وعبدالسلام" وهما من أقدم وأشهر الأفران فى البلدة ..
وفى أوقات فراغه كنا نرى عم إبراهيم يصنع الكراسى الخشبية الصغيرة والطبالى فى الشارع أمام بيته الصغير وبمنشاره يقطع الأخشاب بمهارة ونشاط ، ونراه مهموماً بإصلاح الأشياء وصنع المقشات الليفية ..
كان يعشق النجارة ويمتلك أدواتها ..
طاف عم إبراهيم كثيراً فى البلاد، ومارس العديد من المهن قبل أن يحترف الخبازة ويحكى لنا شقاءه وطوافه فى بلاد الأرض وبقاعها ، وكيف ذاق الغربة داخل وطنه وخارجه عندما سافر إلى ليبيا للعمل وكيف وكيف وكيف ...
فى أحيان كثيرة كنت أرى عم إبراهيم حصان عربى أصيل نادر وأحياناً أخرى أراه أسداً جسوراً يزأر بالحق ولا يخشى لوماً وإذا أخطأ لا يتورع عن الاعتراف بخطئه وإذا رأى ظلماً أمامه دافع عن المظلوم ولو كلفه ذلك حياته ... يحكى لنا مرة .... " كنت فتى غريراً عندما قبضوا علىّ بدون سبب ووضعونى فى النقطة وجاء أحد المخبرين بسوط وشرع فى ضربى ورفع يده وقبل أن يهوى بها علىّ قال لى : لو قلت أنا مرَة هسيبك تمشى ، فرفضت وفضلت السوط على أن أنطق بها وأخرج مع من خرج من الرفاق .. "
كان ذلك فى زمن تسوق فيه الحكومة الشباب الغض إلى مواقع الهلاك والعمل المميت بلا رحمة أو هوادة ..
أراه جالساً مع رفقة اللهو البرئ يلعبون الدومينو ويدخنون فى زهو عند بيت أحد الأصدقاء وهم يفترشون الحصير عند إصفرار الشمس ساعة المغيب وكأنهم يسخرون من العمر أو يعلنون التحدى أمام وطأة السنين، ذلك المشهد الذى يبحث عن رسام كى يثرى به لوحته أو شاعر كى ينعش به قصيدته ..!
جميعهم يجلس القرفصاء، وبنهم وحرص يمسكون قطع الدومينو فى أيديهم يدارونه حتى لا يفتضح الورق ويخسرون، وبين أصابعهم لفافات التبغ تحترق فيقع رمادها فوق طاولة اللعب .. أظنهم كانوا سعداء ..
مرّت أعوام عديدة لا أدرى كم عددها وأنا أبحث واسأل أين عم إبراهيم ، أين .. لم أسمع رداً .. وحينما جاء الجواب علمت أنه ضاق بالأرض فارتفع إلى السماء ، ذهب عند ربه وترك ذكراه تجرى عند أحبائه ، حتى رفقته المفضلة لم أعد أراها فمنهم من لحقه بأعلى ومنهم من لزم بيته حزناً على الفراق ...
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة