شربت مصر مقلبا كبيرا حين صدّقت لأكثر من عشرين عاما، أنه لا صوت يعلو فوق صوت البنية التحتية، كنا نسأل الحكومات المتعاقبة منذ عصر الدكتور عاطف صدقى: أين ما تتلقاه الدولة من مليارات المعونات الأجنبية؟ ولماذا لا يشعر بها الناس، أو تنعكس على حياتهم اليومية رخاء ورفاهية؟ وكنا نسأل: أين تنفق السلطة دخل قناة السويس وعائدات النفط وأموال الضرائب؟ ولصالح من تصب ثمار التشريعات المحفزة على الاستثمار الأجنبى، والتوسع فى التسهيلات لصالح المدن الصناعية الجديدة، وعائدات إعادة الهيكلة وبيع القطاع العام؟
كانت الإجابة الدائمة التى تجرى على ألسنة رؤساء وزارات مصر بلا انقطاع، أن الدولة تتصدى لمشروعات البنية التحتية من طرق وكبارٍ وشبكات كهرباء وشبكات للمياه والصرف الصحى، وهى مشروعات تلتهم مليارات المعونات، وتنقض على كل مليم فى الموازنة العامة للدولة، هذه الإجابة بحد ذاتها كانت هى عين هذا المقلب الكبير الذى شربناه جميعا، فلا طلنا أموال المعونات، أو عوائد النفط والقناة، ولا حصّلنا الحد الأدنى من مشروعات البنية التحتية فى كل قرى ومدن مصر.
اليوم وبعد كل سنوات ربط الأحزمة على البطون باسم مشروعات البنية التحتية، يجتاح التيفود قرى القليوبية لخلل فى مواسير الصرف، دفع الناس للشرب من المياه الملوثة، واليوم أيضا يموت أطفال المطرية فى مستشفى عام، نتيجة انقطاع الكهرباء فى قلب القاهرة، واليوم أيضا يحاصر العطش الأراضى الزراعية فى عدد من قرى الفيوم والدقهلية لخلل فى منظومة الرى فى المحافظات، واليوم تغرق 5 محافظات فى جنوب مصر فى ظلام دامس لأعطال شبكات الكهرباء، واليوم لا تزال عشرات الآلاف من الكيلومترات للطرق غير ممهدة، وحتى الطرق المرصوفة تعانى من سوء التخطيط والتنفيذ إلى الحد الذى يجعل منها معابر للموت عبر عشرات الحوادث الدامية يوميا.
واليوم لاتزال قرى على شريط الوادى تحيا بلا كهرباء أو مياه، ولا تزال قرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تحيا بلا مياه، وتتسول الشرب من مراكز المدن أو بالطلمبات الحبشية أو عبر (تنكات) نقل المياه بين الأقاليم، واليوم لا تخلو قرية أو مدينة مصرية من مشكلة فى المياه، أو الصرف الصحى، أو الكهرباء، أو الطرق، تلك القطاعات التى كان يجب علينا أن نعيش عصر ازدهارها المتألق بعد أكثر من عشرين عاما من شعارات البنية التحتية الأساسية فى مصر.
مهزلة البنية التحتية ليست مقصورة على هذه القطاعات فحسب، لكنهم قالوا لنا أيضا، إنهم ينفقون هذه الأموال على إنشاء المستشفيات، والمدارس، وإمداد مؤسسات الرعاية الصحية والتعليمية بالمعدات اللازمة لإنتاج جيل شاب واعد ومتعلم، سوىّ البنية، كامل البنيان الصحى، ثم نحن ننظر من حولنا فلا نرى مستشفى عاما واحدا إلا ويعانى من نقص فى عدد الأسرّة، وفقر فى الخدمات الطبية، وعدم كفاية فى كميات الأدوية المتاحة للمرضى فى جميع المؤسسات الطبية العامة.
أما مستشفيات المحافظات، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت من أزمات تعصف بأرواح المرضى، وتضيق فيها الأرض بما رحبت على كل من يقصدها للعلاج، فلا الحكومة استطاعت أن تبنى مستشفيات جديدة لمضاعفة عدد الأسرّة لخدمة المرضى، ولا نجحت فى أن تحافظ على مستوى الخدمات الطبية المقدمة فى المستشفيات، ولا وفرت للمرضى علاجا لائقا. كل شىء من حولنا ينطق بفقر البنية التحتية المصرية، فى الطرق الترابية أو المرصوفة، فى السكك الحديدية، فى شبكات الصرف والمياه، فى الكهرباء، فى مياه الرى، فى المستشفيات العامة، فى المدارس والجامعات.. ثم لا يشعر أحد بالخجل حين يتحدث عن أزهى عصور البنية الأساسية والمشروعات التحتية فى مصر.
هؤلاء الذين أنفقوا الأموال على مشروعات البنية التحتية فى هذه الحكومة الحالية برئاسة الدكتور نظيف، أو فى الحكومات السابقة برئاساتها المختلفة، يتحملون إثم ما جرى أمام الله ثم أمام الناس، هؤلاء الذين أداروا أموال هذا البلد لسنوات ممتدة بناتجه القومى أو بالمعونات المتدفقة عليه من الخارج، يتحملون وزر بقاء الحال على ما هو عليه، بلا خطوة للأمام فى البنية التحتية أو البنية العلوية، هؤلاء الذين تفرغوا لتخطيط المدن الجديدة العامرة بالقصور، وتقسيم كعكة الساحل الشمالى، وإهدار المليارات على شركات ذوى القربى، أو شركات ذوى الحظوة من الباطن، هؤلاء يتحملون خطيئة التردى العام فى مصر، والعجز العام فى مختلف المرافق فى البلاد، والإخفاق الذى لا يحتاج إلى برهان فى أسطورة البنية التحتية.
كذبوا علينا فى كل عهد، وكذبوا علينا فى كل مشروع، بل كذبوا علينا فى كل لحظة، تفرغوا فقط لإقامة حفلات الزار السياسى والاقتصادى، ابتهالا وقربى للبارونات الذين صنعتهم الدولة فى ميادين الاستثمار العقارى، بارونات من عينة هشام طلعت مصطفى الذى منحوه الأرض بلا ثمن، ومدوا له أيادى الدعم والعون فى المرافق وشبكات المياه والصرف والكهرباء، وذللوا له الصعاب، لتجرى أنهار مصر وخدماتها من تحت قدميه، حتى يجعل من التراب (ذهبا خالصا من غير سوء)، يبيعه لهواة الذهب العقارى من أصحاب المقامات الرفيعة، أو ينفقه فى أساور من ذهب على غراميات دامية بين القاهرة ودبى ولندن، أو على جرائم قتل بملايين الدولارات (خالية من الضرائب).
هشام فقط ومن هم على شاكلته، هم الذين انتفعوا من سياسات البنية التحتية والعلوية، ومن تشريعات التساهل والمنح بلا حساب، هشام فقط ومن هم على شاكلته من صنائع الدولة، هم الذين أكلوا وشربوا باسم البنية التحتية، وباسم التطوير العقارى، وباسم النهضة المعمارية، وباسم الصفقات بعيدة المدى واسعة الربح والتأثير، هؤلاء هم الذين عملت لهم الحكومة، وقطفوا ثمار الدعم الحكومى، أما الملايين من أبناء مصر، فأكلوا وشربوا من شعارات البنية التحتية، ولم يحصلوا على سكن مناسب، أو ماسورة مياه آمنة، أو سلك كهرباء سليم، أو مستشفى يخفف الألم، أو مدرسة تضمن تعليما يصون العقل ويحفظ الكرامة.
مشروعات البنية التحتية المصرية لم تذهب للفقراء، ومليارات الصرف الصحى والكهرباء والطرق والغاز لم تعرفها الغالبية العظمى من أبناء مصر، عرفها فقط هؤلاء الذين فتحت لهم الحكومة أبواب الأراضى فى المدن الجديدة، وقاسمتهم ثمارها الناعمة، عرفها فقط هؤلاء الذين كانوا يجيدون لعب الجولف مع وزراء الحكومة على الملاعب الخضراء فى قلب الصحراء، أو على حدود الساحل الشمالى، عرفها فقط الذين يجيدون إنفاق المليارات على الراقصات والمطربات والقتلة المحترفين.
هوامش...
أموال المعونة الأمريكية .. بلغت المعونات الأمريكية المقدمة إلى مصر على امتداد 34 عاماً من 1975 حتى 2008 نحو 66.4 مليار دولار، وذلك بمتوسط سنوى حوالى 2 مليار دولار. وتقدر المعونات الاقتصادية بنحو 25.6 مليار دولار بينما بلغت المعونات العسكرية حوالى 28.8 مليار دولار، وتعتبر مصر ثانى أكبر دولة متلقية للمعونة الأمريكية بعد إسرائيل، وعلى مدار الأعوام الثلاثين الماضية كان للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إسهامات كبيرة فى مصر.
استثمرت الوكالة الأمريكية للتنمية نحو 605 ملايين دولار فى مجال الاتصالات منذ عام 1987 مما أدى إلى إدخال 860 ألف خط تليفونى جديد لخدمة حوالى 5 ملايين مواطن، ومنذ عام 1975 استثمرت الوكالة ما يقرب من 1.7مليار دولار فى قطاع الطاقة الكهربية وهو الأمر الذى ساهم فى أن تغطى الكهرباء 99% من المصريين، وبالمثل ساعدت استثمارات الوكالة فى قطاع المياه والصرف والتى بلغت 3 بلايين دولار فى توصيل المياه النظيفة إلى 98% من المصريين.
خالد صلاح
كذبوا علينا فى كل عصر وكذبوا علينا فى كل مشروع جديد..
أزهى عصور البنية التحتية فى زمن هشام طلعت مصطفى
الخميس، 06 أغسطس 2009 02:04 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة