عبد الناصر عبد الرحيم أحمد يكتب: الحاضر وأزمة الشعر "2"

الإثنين، 31 أغسطس 2009 02:04 م
عبد الناصر عبد الرحيم أحمد يكتب: الحاضر وأزمة الشعر "2"

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت قد تحدثت فى الجزء الأول من مقالى السابق "الحاضر وأزمة الشعر"، وانتهيت إلى أن بعض التغييرات تعود إلى المكتشفات العلمية التى تسلم العقل الإنسانى اليوم إلى حيرة كبيرة وتهز إيمانه بكثير من القواعد السابقة التى ارتكز عليها فى حياته وتفكيره، فقد تجاوزت مكتشفات العلم ما كان فى حكم الخيال.

ومن هذه التغيرات ما طال مقومات الحياة فى المجتمع الحديث، والتى أثرت – بالتدخل مع سابقتها – على تصورنا للحياة وما لنا من أفكار عن التطور. هذه الحالات وضعت الإنسان فى اضطراب وحيرة، وأربكت التعبير عند الشاعر، فهو إن بقى مغلقا عقله عنها يخشى أن يوصم بالتخلف، أما إذا انفتح عليها – وقد فعل فى بعض الحالات – فقد يقع فى شىء من اختلاط الإحساس بين التكوين الذاتى له والواقع الفعلى لما يعيش ويرى.. الأمر الذى جعل ارتباطه بالحياة وحركتها ارتباطاً مهزوزاً.. وفى أحيان كان يجد فيه عدوانية على صوت الشاعر فيه فقد أبعد هذا عن واقع التأمل، وأفسد عليه الإحساس ببكارة الأشياء. والأهم من هذا كله – وربما بفعله – هو إحساسه بانعدام الذاتية.. غير أن النقص الكبير فى هذا من جانب الشاعر أنه لم يتعامل مع هذا الواقع الجديد، بمكوناته ومعطياته، من خلال إحساس شعرى كان يكمن للحالتين: التواؤم والاصطدام، أن يقدم تجربة جديدة وصولا بالشاعر إلى حالة من التعبير الجديد، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث على نحو ما ينبغى أن يكون، كل ما حدث هو أن الشاعر استسلم لحيرته التى هى حيرة الحياة أمام وجود جديد يفاجئها، وقد وجد وهو فى ذهوله هذا من فقدان دوره واضمحلال حالة الإصغاء إليه. إن قاموسه لم يعد صالحا لمخاطبة العصر.. فكان لابد من قاموس شعرى جديد. ثم إن هذا الإحساس بالتفتت لابد له من إعادة بناء وتكوين.

وهكذا فقد الشاعر تفرده وخسر الشعر امتيازه، وإن كان العصر لم يتخل عن الشعر وأمامنا أمثلة على ذلك فى أحمد عبد المعطى حجازى وقصائد ما بعد عام 1967، وصلاح عبد الصبور فى ديوانيه "شجر الليل" و"الإبحار فى الذاكرة" .. فماذا فعل الشاعر فى مواجهة كل هذا؟ عاد إلى نفسه فلم يجد فيها شيئا كثيرا يفاجئ به العصر، وحاول الانغمار فى حالات ومواقف فنية وموضوعية ظن فيها الاقتراب مما يمكن أن يشكل الأساس لقاموس شعرى جديد، فوقع فى تجربة لم تنتج شيئا، ولا أضافت إلى شىء موجود، وقاده ذلك فى بعض من مساره إلى تجريدية ليست من نفسه ولا من كيانه الفنى. وأحيانا وبسبب ذلك وجدنا الشاعر اثنين.. شاعراً يقاوم الشيوع فى الحياة فيقع فى الإغراب.. وآخر ينحدر إلى هذا الشيوع فى الحياة والفكر والتوجه فيقدم صورة من صور عجز الشعر عن أن يظل فناً كبيراً متطوراً، فلا ينقذ القصيدة بل يغرقها بما يشل من طاقات الحياة والتطور فيها، ويسلمها إلى حالات موت جديدة..

لكن لنا أن نسأل وقد يكون السؤال –فى صالح الشاعر – لأنه يتضمن الدفاع عن موقفه هذا: هل بمقدور الشاعر وهو فى خضم هذا الشيوع والاضطراب وحيرة الإحساس وتبدد الرؤيا وتمزق الذات.. هل بمقدوره أن يخرج بإيمانه الجزئى جاعلا من تجربته كونا منفصلا عن إطار العموميات، هذا الذى وجد الإنسان نفسه فيه منذ منتصف القرن الماضى على وجه أعنف مما كان عليه الأمر فى أى مرحلة سابقة من حياة الإنسانية؟ إن أفكار الشاعر أصبحت بفعل هذا الواقع أفكاراً عامة، ورؤية كذلك. والشعر لا يعيش فى العام، ولا ينمو أو يزدهر. ثم ومن جانب أخر ليس بمقدور الشعر باستمرار أن يرتفع بهذا العام إلى المستوى الشعرى معنى ودلالة، لا قصور فى أداء الشعر فحسب، بل إن هذا العام بحد ذاته على النقيض مما هو شعرى إن لم يكن ضده.. إن امتياز العقل فى هذا العصر جاء على حساب الشعرى، أما الشاعر فحين حاول استثمار امتياز العقل على مستوى الشعر، كان قد وقع فى التجريد الذى جعل من تجربته تجربة لا تسمو بشىء من تعبيراتها وصيغها من غير أن يجعل لإحساساته فضاءات جديدة، سواء فى الرؤيا أو التعبير، لذلك تضاءلت عنده حالات الانفعال، ووصل إلى ما يقرب من الافتعال.. ويجب أن لا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن الشعر فن محلى بمعنى ما له من خصوصية الأرض واللغة والموروث والتاريخ، وكذلك من حيث التعاطف معه، فهو معبر عن خصائص الانتماء.

انتماء الشاعر إلى قضية وأرض وتراث وتاريخ، فى هذا يتعين امتياز الشعر لا فى سواه، وهنا نقف على جانب مهم فى أزمة الشعر المعاصر .. فمن جهة فهم الشاعر المعاصر المحلية فهماً مغلوطاً فى حالات كثيرة وربطها ببعض التصورات الأولية له عن الموضوع. ومن جانب آخر أضاع هذا الشاعر نفسه فى العجلة المجنونة التى تندفع بقوة حياة هى ليست حياته، وقد غمرت بأحداث ورؤى وتصورات وفتحت أمامه من قنوات الحياة والفكر ما وجد فى الكثير منه نافراً مع ذاتيته، إن شاعراً مثل السياب حين اكتشف طريق الأسطورة كان قد قوى بها إحساسه بما كان له من أحلام.. وكانت الأساطير التى اعتمدها فى قصائده عاملا فعالا فى بناء رؤيته، فخرج بتجربته من حالة العمومية والشيوع إلى شىء كبير من خصوصية الموقف فى الحياة ومنها. لقد كرست الأساطير فى نفسه وفكره، وبالتالى فى رؤياه خصوصية المعتقد الذى كان فى الأصل محليا انطلق من خلاله إلى ما هو كونى لكن الأزمة، أزمة الشعر فى علاقته بالواقع والقارئ، أى المتلقى معاً، نعيشها اليوم على نحو فيه الكثير من الحدة والخطورة.. فهل سيحمل الشاعر اقتراحاً للخروج من هذا الوضع الذى يكاد يغلق الباب عليه؟






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة