د.عمر كامل

نحن واليهود.. إشكالية معرفية

الأحد، 30 أغسطس 2009 11:36 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الحب والكراهية مشاعر إنسانية يمكن للإنسان أن يعبر بهم عن أحاسيسه الشخصية تجاه شخص أو أمر ما. وأكاد أن أجزم بأن هذه الثنائية بين الحب والكراهية لم تفارقنى فى دراستى للمجتمع الإسرائيلى خاصة والتاريخ اليهودى عامة. فالقاصى والدانى يعلم أنه لا يمر يوما إلا ونسمع فى وسائل إعلامنا المرئية منها والمسموعة الكثير والكثير عن إسرائيل واليهود، فتارة نسمع ونقرأ عن إسرائيل التى اغتصبت الأرض وشردت الشعب وهتكت العرض، وتارة أخرى نسمع عن إسرائيل تلك القوة السرطانية التى لا تعرف إلا مصلحتها ولا يسلم من ألاعيبها عدو أو حبيب. ولا يختلف الأمر كثير فى ما نتناوله فى قرائتنا ومشاهدتنا اليومية عن اليهود، ففريق يرى فى اليهود تجار شطار، وآخر يرى فيهم شعبا مكارا، وثالث يقدم اليهودى كجبار، ناقد للعهود وغدار. والحق أن مثل هذه الأوصاف تعبر عن سلوك عام وشائع فى الشارع العربى من مراكش إلى حضرموت ومن القاهرة إلى بغداد، وهو سلوك تختلف فيه الآراء فهناك من يراه محقا ونتيجة طبيعية لضياع فلسطين وسلوك إسرائيل من أيام بحر البقر إلى قانا ومنهما إلى أم جبيل وغزة. وفريق آخر يرى فى مثل هذه الأوصاف عنصرية تتعدى حدود الصراع مع اليهود مناديا بتخطى الماضى والعبور على الحاجز النفسى ومبشرا بمستقبل مزدهر فى العلاقة مع اليهود. وبغض النظر عن هذين التياريين ودون الدخول فى غياهب جب الخلافات حول إستراتيجية التعاطى مع إسرائيل خاصة واليهود عامة، يتوارى أحد أهم الأسئلة فى غياهب النسيان: أين معرفتنا عن إسرائيل واليهود؟

بداية علينا أن نعترف بالأسس المنطقية التى ترى أن المعرفة أى معرفة لا تستقيم إلا بمسافة. فالكراهية تُبعد المسافات فيغيب الآخر ويغيِّب، فلا نعد نراه أو لا نرى إلا وجهه القبيح الذى نستسيغه ونتوق إليه، وفى مثل هذه الأجواء تنمو وتترعرع المعرفة المتوهمة، فنـألف الشىء حتى نظن أننا نعرفه، أو يخلق بيننا وبينه معرفة هلامية تحل محل المعرفة النقدية، ويتوالد عن هده المعارف ثقافة الحقائق المطلقة، فيجمع العامة والخاصة من القوم على طبيعة الآخر السيئة على الطلاق، فمن خرج على إجماع الأمة واقترب من الآخر يقابل بالويل والثبور وعظائم الأمور.

إلا أنه ومن أجل أن تكتمل الصورة نرى أن المعرفة لا تستقيم أيضا إن قصرت المسافات تلاشت وأصبح التعرف على الآخر يعنى نسيان أو تناسى آثار الماضى والنظر إلى المستقبل. إن المعرفة تتطلب مسافة وسطية لا هى بالقصيرة ولا هى بالطويلة. فإذا أردنا أن تطبيق هذه المبادئ المعرفية على الرؤية العربية فى التعاطى مع اليهود عموماً والإسرائيليين خصوصاً، لاصطدمنا - منذ عقد اتفاقيات سلام عربية مع إسرائيل وتولد رغبة عربية داعمة لإستراتيجية سلمية - بانشطار أهل الفكر العربى المعاصر إلى تيارين يقصى أحدهما الآخر، ويدعى احتكار الحقيقة، ويؤصل لذاته بمرجعية ليس له بها علاقة مباشرة، مستخدماً فى ذلك الحجج السجالية والبراهين السجعية فى إثبات دعواه وإبطال دعوى من خالفه الرأى.

فثمة تيار من أهل الأنتليجنسيا العربية يسعى لمد جسور السلام مع الشريك الشرق أوسطى الجديد، بل والذهاب إلى أنه لا سبيل إلا الاندماج التام والكلى مع ثقافة الآخر لخلق شرق أوسط جديد، وثمة تيار آخر رافض لكل صور التعاطى مع إسرائيل كعدو صهيونى ومُصر على أنه لا حل إلا الاعتصام بالذات كمخرج من كبوتنا العربية الإسلامية السائدة بهدف مواجهة الآخر الإسرائيلى اليهودى والاصطدام به.

التيار الأول يدعو إلى الذوبان فى شرق أوسط جديد، بحيث نصبح جزءاً من هذا البنيان الجديد لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً. وبحيث ينبغى علينا أن نشعر اليهودى الإسرائيلى بأننا نرى الأمور كما يراها ونقوَّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على طبائع الأمور كما يحكم هو عليها. وهذا تيار يرى فى نفسه ممثلاً للبرالية الأوربية وداعياً إلى مطابقة الآخر وطى صفحة الماضى ورافعاً شعار التنوير على غرار التجربة الأوربية. أما التيار الثانى فلا يدخر جهداً لإعلان أن هدفه هو إيجاد فضاء ثقافى خاص به، يؤسسه على ما مر من ماضيه، القومى منه أو الدينى، فضاء يكون لليهودى فيه دور المحكوم لا الحاكم.

وإذا كان التيار الأول يرى فى التفاعل السلمى مع اليهودى الإسرائيلى أساساً لمستقبل أمثل لمنطقة الشرق الأوسط، دون أخذ السياقات الثقافية والتاريخية فى الاعتبار، تلك السياقات التى تميز الواقع العربى الإسلامى عن الواقع الإسرائيلى كنتاج لانتماء يهودى للغرب – اليهود الاشكناز – والشرق العربى الإسلامى – اليهود السفارديم أو المزراحيم، فإن التيار الثانى يبحث عن نقاء ثقافى مطلق يستمد مكوناته من الماضى من أجل تحجيم الآخر اليهودى الإسرائيلى إن عز الإجهاز عليه.

وسط تخاصم هذين الموقفين اللذين يشطران واقع الحياة الثقافية، بل والسياسية الحالية، يمكن لنا أن نستنتج ما يرمى إليه التياران: فبينما يسعى التيار الأول إلى تجميل الآخر اليهودى الإسرائيلى وبالتالى قبوله، يعمل التيار الثانى على تشويه ومن ثم رفضه. فرجال التيار الأول هم رجال المطابقة مع الآخر، وحملة لواء التيار الثانى هم أصحاب رفض هذا الآخر. وموقف كل منهما ولائى وامتثالى وغير نقدى، ولن يفضى إلا إلى مزيد من فقد الهوية الذاتية من خلال المطالبة بمطابقة الآخر أو بمزيد من العزلة عن الآخر اليهودى الإسرائيلى كما يسعى التيار الثانى.

ولعل القاسم المشترك بين التيارين أنهما يمثلان ظاهرة رغبوية، أى أن أهدافهم تنحصر فى إبداء الرغبة، دون النظر بعين الاعتبار إلى الهوّة ما بين الرغبة والوصل إليها. وعليه نرى أن التيارين يُغيبان عن وعى أو عن لا وعى ما نسميه "الرؤية المعرفية". ونعنى بذلك إيماننا بأن ما نحتاج إليه فى تعاطينا مع الآخر اليهودى الإسرائيلى هو رؤية عميقة تنظر فيما وراء رؤية العين المجردة. إن مثل هذه الرؤية تستلزم ابتعاداً معرفياً عن الآخر، لكى نتمكن من رؤيته رؤية موضوعية بعيدة عن ثنائية قبوله أو رفضه. كما تستوجب هذه الرؤية المعرفية انفصالاً رمزياً عن الأنا، مما يجعل مراقبة أفعالها أمراً ممكناً دون الانزلاق وراء شهوات إشباع الذات بما يستهويها من الآراء.

إن إسرائيل بهذا المعنى الأيديولوجى المباشر الماثل للعين العربية المجردة هى مثار حديث يومى متواصل دونما انقطاع، ولكن ما يفوتنا دوما عندما نسترسل فى الحديث هو إسرائيل بما تعنيه من تحد حضارى لنا نحن العرب. ومواجهة هذا التحدى لا تكون فى عصرنا الحالى بتجيش الجيوش، كما لا تعنى سب ولعن الآخر الإسرائيلى من أجل إرضاء الذات الجريحة، ورفع سيف التطبيع على رقاب من يسعون لدراسة الآخر اليهودى الإسرائيلى، كما لا تعنى الجلوس على طاولة مفاوضات من أجل حل سياسى كثيراً ما يكون على حساب الطرف العربى الضعيف. إن القوة فى عالم يفتخر بالانتماءات والشراكة الحضارية إنما تعنى المعرفة. فإذا ما نظرنا إلى الصراع العربى الإسرائيلى منذ 1948 إلى اليوم أدركنا مدى ضعفنا العربى فى دراسة الآخر الإسرائيلى. وهنا تبرز أهمية تفعيل دور المؤسسات الأكاديمية لدارسة الآخر الإسرائيلى. وعلى الرغم من وجود بعض الأكاديميين العرب الذين يتمتعون بمستوى جيد ومعرفة لا بأس بها باللغة العبرية، إلا أن نشاطهم الأكاديمى ينحصر فقط فى تراجم الصحف العبرية أو فى الدراسات اللغوية المقارنة. بالإضافة إلى ذلك نجح العديد من الأكاديميين العرب فى "إغناء" المكتبات العربية بالكثير من كتابات إرضاء الذات عن طريق "شيطنة" العدو. ولذلك تعانى المؤسسات الأكاديمية العربية من عدم قدرتها على تطوير التخصص فى دراسة الشئون اليهودية والإسرائيلية بما يتناسب مع التحدى الحضارى الذى تواجهه المنطقة العربية اليوم برمتها. ولعل ما يثير الاستغراب والتعجب، بل والحزن أيضا هو حقيقة أن المنطقة العربية اليوم لا يوجد بها أى مركز أكاديمى يتناول بالبحث والدراسة الآخر اليهودى والإسرائيلى بعيد عن منطق الرغبوية!

وعلى العكس تماماً، فالمتابع للمؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية يلاحظ تفوقها الواضح على مثيلتها العربية الأمر الذى لا يحتاج إلى براهين خاصة. ولكن علينا أن نعى جيدا أن هذا التفوق لا يعود إلى مقدرة سوبرمانية إسرائيلية يقابلها تخلف عقل عربى، كما أن المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية نفسها لم تكن محصنة من الانزلاق وراء أهواء العمل السياسى، لدرجة أنها تفاعلت مع القوى السياسية فى إسرائيل وكثير ما تم أدلجتها. غير أن ما يحسب للمؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية هو قربها إلى المؤسسة الأكاديمية الغربية فى تعاطيها مع الشئون العربية الإسلامية، ولذلك يبدو أثر المدارس الاستشراقية فيها جلياً، كما يجب أن يُأخذ بعين الاعتبار مدى استفادت الأكاديميين الإسرائيليين من طرق البحث العلمية الغربية المستخدمة فى دراسات المجتمعات العربية الإسلامية.

وأخيراً لقد منى العرب بالهزائم العسكرية أمام الدولة العبرية وبدأت التسوية الراهنة للقضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلى تنطلق من ميزان القوى القائم بينهما والمرجح للكفة الإسرائيلية وليس على أساس من العدالة ولو النسبية التى تجعله يعيد جزءً من الحق لصاحبه. فما علينا وفى ظل هذه الأجواء السائدة إلا أن نعى أهمية دراسة الآخر وننتقل من شخصية الشاكى الباكى والمطالب بحقوقه والراوى لقضيته فى المحافل الدولية متأملاً وراجياً العطف العالمى، إلى شخصية الدارس الواعى بقضاياه. علينا أن نواجه الرأى العام فى الغرب وفى إسرائيل نفسها من خلال ميكانيكية أكاديمية تعمل على إخراج الفضاء العربى الإسلامى من كبوته الحضارية السائدة. نعم لم تعد دراسة الآخر اليهودى الإسرائيلى مجرد رفاهية خاصة بعد اختيار العرب للسلام كإستراتيجية للقرن الواحد والعشرين، بل باتت ضرورة من ضروريات العصر، فوزن اليهود اليوم فى السياسة العالمية وقوة إسرائيل إنما يعبران عن سلة معرفة يهودية إسرائيلية. وليس بعيب الاعتراف بطفرة معرفية تفصل بيننا وبين الآخر اليهودى - الإسرائيلى. إنما علينا كأكاديميين وأصحاب أقلام عربية أن نحرر الرؤية العربية نحو اليهودى والإسرائيلى من قيد الأيديولوجيات ونضع حجر الأساس لنهج جديد يجعل من المعرفة مرجعيته الرئيسية: باختصار علينا أن نقدم سلة معرفة عربية إسلامية عن اليهود وإسرائيل.

وانطلاقاً من هذه الرؤية نرى فى تأسيس مركز للدراسات اليهودية والإسرائيلية، واحة للمعرفة العربية الحديثة، ودوراً - وإن كان بسيط - فى رفع شأن المعرفة العربية فى تعاطيها بشفافية مع الآخر اليهودى الإسرائيلى.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة