القاعدة القانونية المستقرة التى تقول إن "المتهم برىء حتى تثبت إدانته" قد أصبحت من المقولات الفولكلورية التى يتداولها كل خلق الله، وسوف نضيف عليها هنا من قبيل التطوير "كل وزير فى حكومة الحزب الوطنى محترم وبرىء حتى تثبت إدانته"، نقول هذا بمناسبة إصدار النيابة "التركية" قرارها بملاحقة الرئيس التركى عبد الله جول، لكن منذ عدة أيام أقرت محكمة استئناف سنجان التركية إمكان إجراء محاكمة للرئيس عبد الله جول فى قضية "اختلاس أموال عامة" تعود إلى التسعينيات من القرن الماضى، لكن الرئاسة أعلنت أسفها لقرار المحكمة فى بيان يؤكد بأن "جول" عندما كان نائبا كان قد طلب رفع الحصانة النيابية عنه لإلقاء الضوء على هذه القضية، لكن طلبه رفض حينها، كما أنه كان يوجد قرار قضائى سابق أقر بعدم مسئولية "جول" فى الملف المالى فى حزب "الرفاه الإسلامى" المتهم باختلاس أموال من الخزينة فى نهاية التسعينيات، وقالت إن "جهود بعض الأوساط التى تحاول تقديم الرئيس على أنه مشتبه فيه، بينما هو ليس متهما ولا ملاحقا، لا تنم عن حسن نية"، وشددت على أنه لا يمكن محاكمة الرئيس بموجب الدستور إلا فى حال "خيانة الوطن"، وبعد ذلك بعدة أيام أعلنت وكالة أنباء الأناضول شبه الرسمية أن المحكمة قد أقرت بأنه يتعين على النيابة إعادة دراسة الملف، وأن تتخذ قراراً جديداً فى شأن إمكان ملاحقة الرئيس "بتهمة تزوير وثائق" و"انتهاك قانون الأحزاب السياسية".
انبرى أحد الوزراء المقربين من رئيس الجمهورية بالدفاع عنه فى الصحافة، كما هى الحال فى مثل هذه الأمور فى كل دول العالم الثالث المنكوبة برؤسائها، فقد انبرى معالى وزير الدولة الناطق باسم الحكومة جميل جيجيك، وأعلن دهشته من قرار المحكمة، وصرح عقب جلسة لمجلس الوزراء متسائلاً فى براءة الذئب قائلا: "ألا يمكن أن يحظى الرؤساء بحصانة يتمتع بها أصلا النواب؟".
وتعود وقائع القضية إلى عام 1998، والتى كانت تتعلق بتبديد "تريليون ليرة" من أموال مقدمة من خزانة الدولة إلى "حزب الرفاه" الذى كان يتزعمه رئيس الوزراء سابقا نجم الدين أربكان،
وقد كان الرئيس جول أحد أعضائه القياديين قبل أن يصير رئيسا للجمهورية التركية.
وإذا تركنا أمر محاكمة الرؤساء قليلاً وتأملنا فى أمر أكثر بساطة، وهو قانون محاكمة الوزراء، وهذه المرة سوف نضيف اسم "مصر" إلى حديثنا فى هذا الأمر ليصبح "قانون محاكمة الوزراء فى مصر" فإذا تتبعنا الأمر فسوف نجد أنه فى شهر فبراير الماضى كان كل من مجلسى الشعب والشورى قد وافقا على "مشروع قانون محاكمة الوزراء"، من حيث المبدأ بعد أن كان قد تلكأ كثيرا فى سراديب المجلسين الموقرين، وتاه فى الأروقة عدة سنوات ليست بالقليلة منذ أن تقدم عدد من النواب بهذا المشروع، فلم يرَ الشعب المصرى وزيراً يحال للمحاكمة فى فترة توليه الوزارة، لكن عدداً من الوزراء السابقين كانوا قد تعرضوا للمحاكمة بتهمة الفساد منهم على سبيل المثال الدكتور عبد الحميد حسن وزير الشباب أثناء حكم الرئيس الراحل أنور السادات، والدكتور محيى الدين الغريب وزير المالية الأسبق، والذى حصل على حكم البراءة من محكمة النقض، حيث تساءل الشعب المصرى: لماذا لا يحاكم الوزير أثناء فترة خدمته؟ حيث يتردد فى الصحف وبين الناس عن فساد هذا الوزير أو ذاك، سواء بتهم اختلاس المال العام أو استغلال النفوذ فى التربح، سواء كان هذا التربح ماليا أو معنويا للحصول على الثروة أو الحصول على شهادات الدكتوراه، حيث يتردد مثلا أن هذا الوزير المحافظ قد استغل نفوذه للحصول على الثروة، كما حصل مع الوزير المحافظ السابق ماهر الجندى، أو أن ذاك الوزير قد حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة التى أنشأتها الدولة فى محافظته من أموال الشعب، وهو استغلال للنفوذ لا يقل جريمة عن الحصول على الثروة، بل إن استغلال النفوذ للحصول على أعلى شهادة أكاديمية "الدكتوراه" هو جريمة أبشع من استغلال النفوذ للحصول على "الثروة " التى يمكن أن يحصل عليها أى موظف صغير فاسد يمتلك "ختم النسر".
لكن استغلال النفوذ للحصول على "شهادة الدكتوراه" يحتاج إلى مسئول من درجة محافظ فما فوق، وقد تحمس الكثيرون من أساتذة القانون وشكروا مجلسى الشعب والشورى لموافقتهما على "مشروع قانون محاكمة الوزراء"، وقالوا إنه يتحتم على الأغلبية فى مجلس الشعب أن تدعم هذا القانون، بدلا من أن تعارضه وتحاول إجهاضه، ودعوا الوزراء إلى الترحيب بالمساءلة؛ لأن الوزير "لو معندوش حاجة غلط أكيد موش ها يخاف من المساءلة"، لكن يبدو أن الوقت مازال مبكرا جدا على موافقة الأغلبية البرلمانية على القانون، وقد بدأت خطوات مشروع القانون تحبو خطواتها الأولى بمناقشاته فى مجلس الشورى، فيما ينص الاقتراح على أن تتولى محاكمة الوزراء محكمة عليا تشكل من ستة أعضاء، ثلاثة منهم من أعضاء مجلس الشعب يتم اختيارهم بالقرعة، وثلاثة من مستشارى محكمة النقض يتم اختيارهم بالقرعة أيضا، وبالطريقة نفسها عدد مساو من نواب الشعب، والمستشارين بصفة احتياطية، "هل يختاروا الوزراء لمحاكمتهم بالقرعة أيضا؟"، ومع هذا النص قامت اللجنة التشريعية بمجلس الشورى بإحضار العديد من القوانين التى تحاكم الوزراء فى الدول الأخرى مثل "الكويت"، لكن هل يتمكن اللوبى المكون من الأغلبية فى المجلسين، وهم من الحزب الوطنى طبعا، هل يتمكن هذا اللوبى من إجهاض مشروع هذا القانون بدعوى عدم دستوريته فى الدورة البرلمانية القادمة، مع أن المادتين 159 و160 من الدستور تنصان على إجراء محاكمة الوزراء؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة