مدحت أنور نافع يكتب: المزاج العام والمزاح السام

الخميس، 27 أغسطس 2009 12:14 م
مدحت أنور نافع يكتب: المزاج العام والمزاح السام

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تتلون البلدان بطلاء من أمزجة شعوبها، فأيما بلد حل عليه الفقر أو نال منه الطاعون أو نزلت به نازلة تلمح فى قسماته شحوب الغم وتسمع فى نبرات شعبه أنين البؤس، وما إن تنزل الرحمات بقوم حتى تشرق وجوههم بالبشر والحبور، وتزهر منازلهم بالتفاؤل كالأشجار الظليلة الوارفة. الأمر فى مصر يختلف كثيراً، كم مرة داهمتك فيها عبارة مواساة من صديق عربى أو أجنبى لدى وقوع كارثة عامة بالبلاد؟ وكم مرة أصابتك علامات الدهشة والذهول ولم تفهم من أمر هذه المواساة شيئاً؟ أما أنا فقد مررت بها كثيراً عند حادث العبارة الذى زهقت على أثره أكثر من ألف روح مصرية، ومن قبله حادث قطار الصعيد، ثم حادث الدويقة.. إلى غير ذلك من حوادث ونكبات يشق على العقل الغربى أن يستوعب حالة الرضا والقبول التى يتلقاها بها المواطن المصرى. ولو لم أكن مصرياً لظننت بالمصريين الظنونا ولحسبتهم شراذم وفرق وجماعات متناحرة من البدو لا تصيبهم الملمات كافة، كما لا تجمعهم الأفراح والمناسبات السعيدة.

فالشعب المصرى كان مضرب الأمثال فى الوحدة والترابط، ولو لم يعد كما كان منذ بضعة عقود فمازلت ازعم أنه أكثر تواداً وتراحماً من كثير من الشعوب التى تجد فى ردود أفعالنا للأزمات أمراً محيراً. ما الأمر إذاً، هل كثرة النوائب علمتنا البلادة؟ هل اعتادت آذاننا قرع طبول الأحزان؟ ربما كان ذلك صحيحاً، ولكنى أظن أن بيت الداء يكمن فى آلية الدفاع السحرية التى يتعامل بها المصرى الحديث مع الشجون العامة، تلك الآلية التى حالت دون وقوع ملايين المصريين فريسة للاكتئاب، وجعلت من الكتلة الحرجة التى كان يمكن أن تشكل مزاجاً عاماً من المرارة والغضب والثورة مجموعات مستأنسة مدجنة تثور فى موجات وعلى فترات من أجل أوجاع خاصة ومطالب فئوية لتؤصّل مزيداً من دلائل الفرقة والأنانية. إنها وبلا شك النكتة السياسية والمزاح المستمر.

ولأن النكتة السياسية قد حظيت عبر تاريخ مصر باهتمام علماء النفس والاجتماع، فلن أدعى لنفسى قدرة على إضافة المزيد لهذا الجهد العلمى الدقيق، ولكننى ألمح بعينى المشاهد العادى تطوراً لتلك الظاهرة بحيث سيطرت على غالبية أفلامنا ومسلسلاتنا وصار نجوم النكتة نجوماً للسينما والمسرح مع بعض الاستثناءات الجادة. فنحن نمزح على المقهى وفى البيت وفى وسائل المواصلات وفى العمل وفى العزاء وفى الفرح وفى قاعة الامتحانات وفى المسجد والكنيسة. نمزح فى كل وقت وحين، عند النصر (فى كرة القدم طبعاً) وعند الهزيمة، عند الفقر وفى الرخاء (إن كان له من أثر) نمزح فى الأفراح والأتراح وحين البأس. نمزح ولا نعبأ أين يقود المزاح، نمزح ولفرط ما أصابنا من الحزن صار مزاحنا سخيفاً أو قل ثقيل الظل. هذا المزاح وإن وجد فيه المرء مسكناً لآلامه وعزاءً لأحزانه فسرعان ما يتمكن من صاحبه ويجرى فى عروقه مجرى الدم، يعبث بالشرايين وتغلظ معه عبر السنين حتى تنسد. إنه مزاح سام يخدر الحواس ولا يترك صاحبه إلا مدمناً كسيراً هزيلاً لا يقوى على مواجهة مشكلات مجتمعه. إنه مزاح فى موضع الجد أحال خلق الله وغيّره، فسبحان من خلق الإنسان فى كبد وأراد للعين أن تدمع عند الألم. بالطبع لا أحب أن نستسلم لأحزاننا، ولكن علينا أن نحوّل تلك الأحزان العامة إلى طاقة إيجابية للتغيير السلمى للأحوال، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

وفى كتاب للأستاذ محمد حسين يونس يقدم خلاله قراءة حديثة لكتاب قديم، قدّم تشريحاً لمصر فى العصر المملوكى عبر قراءته لكتاب بدائع الزهور، علماً بأن ابن إياس وغيره من الرواة والقصاصين قد اشتهروا بكثير من المبالغة خاصة عند ذكر الأعداد والأموال، وهو الأمر الذى انتقدهم فيه ابن خلدون فى مقدمته، وقد اتسم تعليق الكاتب بالمرارة والتعجب والتصديق أيضاً لكل ما ورد بالكتاب علماً بأن عدد المصريين الذين اغتالتهم الطواعين وأكل بعضهم بعضاً –كما أورد ابن إياس- ربما تجاوز عدد سكان العالم آنذاك، حتى أن الكاتب وجّه لوماَ قاسياً للفتح العربى لمصر ولم يستثن الخليفة العظيم العادل عمر ابن الخطاب رضى الله عنه!، وهو نوع آخر من آليات الدفاع المصرية يصم فيه المصرى نفسه بالهوان والسلبية ويبرع فى جلد الذات والتاريخ حتى يهون عليه واقعه الأليم أو حتى يبرر لنفسه ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، ولأننى لا أعلم ولا أفتش فى ضمير المؤلف فحسبى ألفت النظر إلى أن هذا النوع من القراءات لا يخلو من السلبية والميل إلى الدعوة والسكون والدعوة الخفية إلى الزهو بالواقع المرير لأنه خير ألف مرة من الماضى الذى نحسبه خيراً. فالفساد فى ذاك العصر كان عياناً بيانا كذلك قطع الرقاب وهتك الأعراض ولم يكن هناك من ضابط ولا رابط، حتى يظن القارئ أن تلك العصور جاءت خلواً من أى عمل مثمر، بل هى شر محض.
الناس فى مصر غارقون فى المزاح، أو اليأس والنواح وبين هذين النقيدين يكمن العمل الجاد والطاقة الإيجابية والغضب المنتج.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة