من أين تبدأ أزمة الشعر اليوم؟ من الشاعر؟ من القارئ ؟ أم أن الواقع ذاته هو مصدر الأزمة والباعث على الإحساس بها ؟ إن الأزمة أمر واقع فى حاضر الشعر.. وقراء الشعر فى تناقص، و الإقبال على الشعر يتراجع.. والتوقع يذهب إلى أن القرن الحالى قد لا يجد فيه من يقرأ الشعر أو يهتم به على النحو الذى نفعله اليومـ وهو أمر خطير لو حدث. وندور ثانية فى تيار السؤال: فهل نحن أنفسنا بأنفسنا، الذين نعلن فراغ التجربة، مما لها من محتوى كان، إلى عهد قريب، يعنينا بكل ما فيه أو لنا منه.. أم هو الشعر ذاته الذى يدور فى تجربة الفراغ هذه فلا نقف فيه على شىء ما لحياتنا من معنى؟ وماذا يعنى أن تستغنى الإنسانية عن فن من الفنون التى عرفتها، أو يتضاءل الاهتمام به؟. والإقبال عليه مع كل ما لهذا الفن من تاريخ.. فتسلخه مما لحياتهم من آفاق وتخرجه من نطاق التذوق الجمالى ؟ هل هو طغيان حركة الفكر وما أثارته من إشكالات تتصل بالعلاقات الوجودية للإنسان، من علاقته بنفسه إلى علاقته بواقعه؟ أم هو تطور العلم الذى وضع إنسان العصر ضمن أطر أخرى وسياقات أخرى من الحياة والتفكير والرؤى فجعلته يستقبل الحياة بالعقل البارد لا بالعاطفة والتأمل، حتى يجد نفسه فى أحايين كثيرة منسحقا تحت ما يعيش من ضغوط وهو غير قادر حتى على الصراخ ؟ أم أن سببا من أسباب هذا العزوف يكمن فى كون خبرة الشاعر فى قصيدته أقل من خبرة القارئ أو أن حساسية المتلقى فى خط افتراق مع حساسية الشاعر فيما يكتب ؟ إذا كان شىء من هذا واقع فعلا فإن المأزق كبير بدون شك. وهو ما يدعونا إلى وقفة سلوكية نعيد فيها طرق اللقاء. إن الشعراء أنفسهم يواجهون هذا المأزق ذاتيا وفى مواجهة الواقع ويتداعى واقع الأزمة إلى ما يكتبون، ولعل أقرب مثل إلينا هو الشاعر الراحل محمود درويش وما كتبه قبل رحيله بسنوات من تصورات لواقع الأزمة الذى وجد فيه الشعر العربى والقضية الجديدة فيها، وقد مثلت مقالاته تلك فى مجلة الكرمل أعنف مواجهة لهذا الواقع الذى دفع بالخوف إلى نفسه من أن يواجه الشعر موته من خلال أزمته هذه والتى تمثلها فى هذا البعد العدمى الذى يحتل الشعر، رؤيا ولغة وهذه الشكلانية التى تقتل فى القصيدة حيويتها.. وتجففها.. إذا كان الشعر الحقيقى هو الذى نقرأه فلا نجد أنفسنا مكفوفين بأى عامل كان، عن الامتزاج بتجربته.. فإن لنا أن نسأل:- هل كان الشاعر بالأمس يتوجه إلى جمهور مماثل للجمهور الذى يتوجه إليه الشاعر اليوم؟ وهل يمتاز جمهور اليوم بشىء مما يفترضه الشاعر – أو يتطلبه الشعر من خصائص التلقى؟ إننا نعيش اليوم سعة من التعلم والتعليم، ولكن لا تقابلها سعة فى الثقافة أو عمق التفكير، لذلك يجد الشاعر نفسه فى كثير من حالات القول غريبا.. وهنا.. هل يتحتم على الشاعر أن يخلق جمهوره. هذا الأمر لابد منه لاستمرار بقاء الشاعر.. ولكن.. كيف ؟ إن الجمهور اليوم فى معظمه جمهور نستطيع وصفه بالشائع بحكم تكوينه الثقافى الذى لا يتجاوز فى معظم الحالات واقع التخلص من وصمة الأمية، بينما الشاعر العربى الحديث ذهب بعيدا فى ما للقصيدة من أطوار حتى أصبح لا يصل إلى هذا القارئ، وحتى محمود درويش نفسه كمثل معافى فى حاضر الشعر – فى أكثر قصائده اتصالا بالواقع لا يكاد يصل إلى هذا الجمهور، ليس لعلة فى الشاعر، بل فى الجمهور نفسه الذى بقى جمهورا مضغوطا تحت سقف ثقافته المحدودة التى عزلته فى واقع من سطحية التصور والفهم والتلقى، فلم يعد قادرا على تعميق الكثير من ظواهر هذا الفن.. فماذا يفعل الشاعر فى مواجهة ذلك ؟ هل ينتظر حتى تبرأ الحياة من ظاهرة السطحية فيقول قصيدته ؟ أم أن عليه أن يكتب ما يراه ويحسه فيعيش غريبا، وقد يموت غريبا، كما هى غربته فى عصرنا؟ .. يقول أوليوت:- إننا لا نجد شاعرا فى أى لغة حديثة قد استطاع أن يبنى لنفسه اسما بعد الثلاثينات من القرن العشرين، فكل الشعراء المعروفين بيننا شهروا خلال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضى، وبتعديل طفيف يمكن أن نسحب هذا الحكم على واقعنا الشعرى فنقول:- إن الشعراء الذين بنوا أسماءهم عندنا كانوا قد ظهروا خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضى –القرن العشرين- أما بعدهم فإن تغييرات جوهرية فى واقع الحياة فى عالم اليوم قد فعلت الكثير، حتى كان لها أثرها الواضح على ما نتلقى اليوم من شعر. بعض التغييرات تعود إلى المكتشفات العلمية التى تسلم العقل الإنسانى اليوم إلى حيرة كبيرة، وتهز إيمانه بكثير من القواعد السابقة التى ارتكز عليها فى حياته وتفكيره.
عبد الناصر عبد الرحيم أحمد يكتب: الحاضر وأزمة الشعر
الخميس، 27 أغسطس 2009 11:35 ص