المصريون شعب متدين بالفطرة، ولكن الدين عند المصريين ينفصل تماماً عن السلوك وعن العمل، ويختلط ببدع وعادات وأعراف وطقوس منها ما له علاقة بالدين، وما له علاقة بالرغبة المصرية القديمة والعريقة فى التباهى والتفاخر، وتحويل ما هو روحى إلى ما هو مظهرى ودنيوى وأحياناً سلطوى.. وقد حضرت مؤخراً مناقشة حامية بين مجموعة من أقربائى يتبارى فيها كل واحد منهم بحصر عدد "العمرات – جمع عمرة" التى قام بها للأراضى المقدسة..
وأحدهم قام بـ 27 عُمرة، والثانى بعشرين، وأقلهم قام بعشرة عمرات فقط.. وحين ذكرت لهم الكلام المعتاد عن أفضلية توجيه نقود العمرة القادمة لعمل الخير أو مساعدة محتاج أو التبرع لمستشفى، خاصة ونحن فى موسم أنفلونزا الخنازير، هبوا فىّ جميعاً، واتهمونى بأننى عميل للسلطة وللحزب الحاكم، ومن الأبواق التى تردد هذا الكلام الفارغ وتريد أن تحرم الناس من زيارة الأماكن المقدسة، لتوفير العملة الصعبة، حتى يتمكنوا فيما بعد من سرقتها وتحويلها إلى البنوك السويسرية..
ولأننى ليس لى حساب فى أى بنك سويسرى، ولا أعرف أحداً فى السلطة أو فى الحزب، فقد دافعت بشدة عن موقفى، واضطررت تحت الإحساس بالظلم والاستفزاز أن أواجههم بأشياء أخرى، لم أكن أنوى الخوض فيها من أجل اعتبارات القرابة.. لكن البادى أظلم.. ولأننى عشت سنوات فى السعودية، اختزنت فيها الكثير من الصور الكاريكاتيرية عن سلوكيات المصريين فى الأراضى المقدسة.. فقد أحببت أن أطلعهم على بعض ما رأيت من مواقف تدخل فى نطاق المضحكات المبكيات..
وحكيت لهم أننى تدخلت ذات مرة لفض خناقة بين معتمرين مصريين أمام الحرم بسبب "بطانية" مورا إسبانى، أصر الأول أن "ينكت" المملكة مدينة مدينة وشارع شارع حتى يعثر عليها، وأراد الثانى إقناعه بأن البطانيات الكورى، خصوصاً التسعة كيلو أفضل وأرخص.. لكن هيهات.. وسألت أقربائى المعتمرين المتنافسين عن السر فى إصرارنا كمصريين على اصطحاب "البطانيات" من السعودية، رغم شهرتنا العالمية بصناعة الغزل والنسيج.. ثم تذكرت أن "الألحفة" الماليزى والكورى والصينى المحشوة بالإسفنج هى الموضة فى السنوات الأخيرة فبلعت لسانى وسكت قليلاً، لأعاود الهجوم بنفس المنطق، وهو هذا الهوس المصرى بشراء ملابس وبطاطين وفساتين وسبح وطواقى شبيكة وسجاجيد صلاة، وأحياناً مكانس وكاميرات فيديو وموبايلات.. وقل ما تشاء عما يحمله المعتمر خلال عودته من الأراضى المقدسة لأهله وأصدقائه ولنفسه بالطبع، لدرجة أن الأمر تحول عند البعض إلى تجارة، وبعد بوار المنطقة الحرة فى بورسعيد، أصبح البعض يتسوق بضائعه فى موسم العمرة..
وحتى يكون كلامى مقنعاً ذكرت لهم أسماء يعرفونها جيداً لجيران ومعارف لنا يسافرون سنوياً لهذا الغرض، للتجارة وليس لأداء الفريضة وكان هذا هو مربط الفرس، الجهل يا عزيزى، والتدين المصرى اللذيذ، فأنا أعرف بعض الناس يؤدون العمرة كل سنة ولا يصلون ورأيت بنفسى آخرين يتبادلون الأحاديث التافهة وهم يسعون بين الصفا والمروة، وكثير منهم لا يعرف مغزى المناسك، أو لماذا يفعل ذلك؟ ولماذا يقول ذاك؟ وما هى الحكمة الدينية من أداء تلك الطقوس؟، أما حجة التدين بالفطرة والإيمان الذى هو فى القلب، والنوايا التى هى أفضل من العلم، فلا محل لها من الإعراب فى عصر الراديو والتليفزيون ودروس المساجد وأشرطة الكاسيت، التى تشرح لمن يهتم أو يريد أن يكون متديناً حقيقياً، أو يعرف أبسط وأهم قواعد أداء مناسك الحج أو العمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، وليست هناك إحصاءات دقيقة أو دراسات مفصلة عن نسبة من يولون وجههم شطر المسجد الحرام بالفعل وينوون أداء فريضة الله، ولا يريدون التجارة أو التظاهر أو التقليد، أو شراء الهدايا، أو إنفاق بعض المال، أو "الفسحة"، لكنهم بالتأكيد نسبة ليست قليلة، وهؤلاء يجب أن يتحدث إليهم أحد، وأن يقول لهم إن العبرة ليست بعدد "العمرات"، ولكن بما يتقبل الله منها!.