فى تعليقه على قيام حركة طالبان بأسر جندى أمريكى فى أفغانستان، استنكر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية قيام طالبان بنشر شريط فيديو يظهر فيه الجندى الأمريكى الأسير وهو جالس على الأرض فى أمان يرتدى جلبابا نظيفا أمامه زجاجة مياه وبعض الفاكهة يوجه حديثه إلى الشعب الأمريكى ليمارس الضغط على الحكومة الأمريكية لإيقاف العدوان الأمريكى وسحب قواتها من أفغانستان، أقول استنكر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية إظهار صورة الجندى الأمريكى الأسير على شاشات التليفزيون واعتبره متعارضا مع مقررات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان وخرق للإتفاقيات الدولية.
جندى جالس سليم معافى بكامل ملابسه يشرب الماء ويأكل الفاكهة ويتحدث بهدوء لم تحافظ طالبان على حقوقه!! هل أذكرك كيف حافظ المتحضرون الأمريكيون على حقوق المعتقلين العراقيين فى سجن أبوغريب عارين تماما بلا ملابس، تنهش الكلاب لحمهم وتتدلى من أجسادهم أسلاك الكهرباء!! إذا كانت هذه حضارة طالبان وهذه حضارتكم .. فمن منكم الإرهابى؟
ولكى لا نذهب بعيدا.. ولتبيان مدى تحضر قواتكم فقد صرح الرئيس أوباما منذ عدة أسابيع يوم 13 يوليو أثناء زيارته لدولة غينيا خلال جولته الأفريقية بأنه قد طلب إلى مسئولى الأمن القومى الأمريكى بإعادة فتح التحقيق فى مذبحة "قندوز" التى حدثت فى أفغانستان فى نهاية عام 2001 لتحديد مسئولية العسكريين الأمريكيين عنها ودورهم فيها (وكانت إدارة بوش قد أوقفت مراراً التحقيق فى هذه المذابح، كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز)
حسنا.. ما مذبحة قندوز؟ ومن الذى قام بها؟ ومن هم ضحاياها ؟
كان أول من أشار إلى هذه الجريمة البشعة هى مجلة News Week الأمريكية فى عددها الصادر فى 26 أغسطس عام 2002 أى بعد تسعة أشهر من حدوثها وهو التقرير الذى اقتُبس من مذكرة سرية للأمم المتحدة بالإضافة إلى تقرير لمنظمة أطباء بلا حدود عن نفس الموضوع.
تقول هذه التقارير، وأنا هنا أنقل تلخيصا عن مجلة نيوزويك الأمريكية وجريدة الديلى ميل البريطانية والعديد من المصادر التى تناولت الموضوع:
"حدث ذلك فى أواخر شهر نوفمبر 2001، فبعد قصف أمريكى شديد وحصار مرير لقندوز، وافق مقاتلو حركة طالبان على التفاوض لتسليم المدينة للتحالف الشمالى الأفغانى الذى تدعمه القوات الأميركية، من خلال الوسيط عبد الرشيد دوستم حاكم الولاية (الذى كافأه الأمريكيون بعد ذلك بتعيينه رئيسا لأركان القوات الأفغانية فى حكومة كرزاى) وأشارت مجلة نيوزويك إلى أنه تم التوصل إلى اتفاق بإشراف أميركى بعد ثلاثة أيام من المفاوضات يقضى بأن يقوم مقاتلو طالبان بتسليم أسلحتهم حتى يمكن إعتبارهم أسرى حرب وأن القوات الأمريكية سوف تعاملهم معاملة كريمة وستطلق سراحهم بعد نقلهم إلى معسكر شبرجان لمراجعة أسمائهم والتأكد من عدم وجود مطلوبين من تنظيم القاعدة بينهم، يلى ذلك عودة المقاتلين الأفغان إلى بيوتهم وقراهم، وعودة الباكستانيين إلى بلادهم واعتقال من يثبت منهم بانتمائه إلى تنظيم القاعدة كأسرى حرب، كما تم الاتفاق على تسليم المقاتلين العرب والأجانب إلى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، كان هذا نص الاتفاق الذى قبل بموجبه مقاتلوا طالبان تسليم أسلحتهم، وقد صدق مقاتلوا طالبان هذه الخدعة، خاصة وأنها قد وصلتهم من خلال الوسيط الخائن عبد الرشيد دوستم، فقاموا بتسليم أسلحتهم، وكان عدد من استسلموا من طالبان يقارب الثمانية آلاف أسير.
بعد الفرز الأولى اقتيد عدد كبير من المقاتلين العرب والباكستانيين الذين اتهمهم الأمريكيون بالانتماء إلى القاعدة، ويقدر عددهم بـ800 مقاتل، اقتيدوا إلى قلعة جانجى للتحقيق معهم، حيث لم يتحمل بعضهم الإهانات والصفعات التى وجهت اليهم خلال عملية استجوابهم بواسطة ضباط المخابرات المركزية الأمريكية، فقام أحدهم بخطف سلاح الضابط الأمريكى وقتله به، وقام الباقون بتجريد باقى الحراس من أسلحتهم لتحرير باقى السجناء الموجودين بالقلعة، فما كان من القوات الأميركية، إلا أن استدعت طائرات إف 18 التى أمطرتهم بآلاف القنابل والغازات لمدة ثلاثة أيام حتى قلبت باطن الأرض وقتلت بلا رحمة كل المعتقلين، مخلفة مئات الجثث المتفحمة لرجال كان كثير منهم مقيدى اليدين والقدمين ولم ينج من هذه االمذبحة سوى 86 من أصل 800 أسير حرب الذين اقتيدوا مكبلين إلى قلعة جانجى.
قرابة 3000 أسير آخرين قامت القوات الأمريكية بتقييد أيديهم وأرجلهم وعصب أعينهم تمهيدا لترحيلهم إلى معسكر شبرجان.. واقتيدوا لوضعهم فى حاويات شحن بحرى حديدية مغلقة ليس بها أى تهوية وضعت فوق جرارات الدبابات، وعندما قاوم بعضهم الاعتقال ورفضوا الدخول إلى الحاويات حملوا من أيديهم وأرجلهم ورموا على وجوههم داخل الحاويات، التى كانت كل منها تضم نحو 300 شخص مكدسين اللحم فوق اللحم بلا أى مصدر للهواء .. فى هذا الوقت عرف السجناء أنهم غدر بهم وأن مصيرهم إلى الإعدام.
بعد ساعات من حشر الأسرى فى الحاويات وعندما بدأوا يشعرون بالاختناق أخذوا يصيحون ويضربون جوانب زنزاناتهم المكتظة، كانوا يصرخون نحن نموت، أعطونا ماء، نحن بشر ولسنا حيوانات، نيوزويك التقت شابا أفغانيا نجا من جحيم الحاوية قال الشاب "بعد مضى 24 ساعة من بقاء الأسرى بلا ماء ولا هواء اقتربت رحلة الموت التى استغرقت 24 ساعة من سجن شبرجان, وحينها كان الهدوء المخيف يخيم على القافلة برمتها فقد خمدت الأصوات نتيجة موت المعتقلين"، إحدى الحاويات التى كانت تضم نحو 200 أسير، لم ينج منها أحد، يقول سائقها "لقد فتحوا الأبواب، فاندلقت الجثث مثل السمك، كانت كل ملابسهم ممزقة ومبللة بالدم والبول".
لقد صرح وزير الدفاع الأميركى "دونالد رامسفيلد" ومستشارة الأمن القومى الأمريكية " كوندوليزا رايس" بأنهم لا يريدون أسرى من طالبان، وكان ذلك إشارة جلية للقوات الأمريكية بوجوب سحق عناصر طالبان تجنبا لأى مساءلات قانونية مستقبلية.
معظم القنوات الإخبارية العالمية تناولت الموضوع ونددت به (عدا قنوات الدول المعتدلة طبعا) يقول المنتج الاسكتلندى جيمى دوران - منتج البرنامج التلفزيونى الوثائقى "قافلة الموت" - إن أسرى طالبان كانوا يتوسلون طلبا لشىء من الهواء داخل الحاويات المغلقة, فيقوم الجنود بإطلاق النار على الحاويات لعمل ثقوب بها من أجل التهوية – كما قال – فينسكب الدم من خلالها, نتيجة قتل معظم من بداخلها، لكن رحمة هذا الجندى – كما يقول دوران – تخفى وراءها وحشية هائلة، لقد كان الجنود يطلقون الرصاصات فى وسط الحاوية وأسفلها لا فى أعلاها, مما يعنى أن الهدف لم يكن التهوية، بل القتل، كما يشير دوران إلى أن بعض السجناء تركوا أربعة أو خمسة أيام داخل الحاويات المغلقة ليموتوا من الاختناق والجوع والعطش.." عندما فتحت الحاويات فى النهاية، لم يكن هناك سوى خليط من الدم واللحم المتعفن" ثم يؤكد دوران أن الجنود الأميركيين الذين حضروا المشهد، طلبوا من الأهالى فى شبرجان محو آثار المحرقة، ونقل الجثث إلى خارج المدينة قبل أن تلتقطها صور الأقمار الصناعية.
وبالرغم من صعوبة الإفلات من هذه المذبحة، فقد نجا منها عدة مئات من أسرى طالبان، وكان لابد من طريقة أجدى وأسرع للإجهاز عليهم، فاقتيد هؤلاء الأسرى إلى منطقة صحراوية مجاورة لشبرقان تعرف بدشت الليل، وكانوا مثقلين بالجراح وفاقدين للوعى، وهناك أطلق الجنود عليهم وابلا من الرصاص، وأبادوهم عن بكرة أبيهم. بعد تسعة أشهر من المذبحة لم يكن من الصعب تمييز ما جرى، حيث بدأت الجثث بالظهور على سطح الأرض بسبب ضحالة القبور، وظهرت ملابس القتلى البالية والعمائم السوداء والجماجم البشرية فى كل مكان.
ضمت المقابر الجماعية فى دشت الليل جثث ما يزيد على 3000 من الأسرى, هم مجموع قتلى الحاويات ومن نجا منها وأجهز عليه الأمريكيون لاحقا، وتشير نيوزويك إلى أن المذبحة تمثل إحدى الأسرار القذرة للحرب الأفغانية.. وأن تحقيق نيوزويك توصل إلى أن القوات الأميركية مع حلفائها قد ارتكبوا ما يوصف بأنه بجرائم حرب.
جيمى دوران نقل عن أحد سائقى الشاحنات تأكيده أن أفراد القوات الخاصة الأميركية أشرفوا على عملية الإعدام الجماعى للأسرى، كما نقل عن جندى أفغانى قوله إن الجنود الأمريكيين كانوا يكسرون رقاب الأسرى، ويقذفون وجوههم بالحامض، مضيفا " لقد كان الأميركيون يصنعون ما بدا لهم، ولم نكن نستطيع إيقافهم، كل شىء كان تحت سلطة القائد الأميركى"، أحد جنرالات التحالف الشمالى تحدث لدوران منتج البرنامج عن معاملة الأميركيين للأسرى قائلا "لقد كنت شاهدا رأيتهم يقطعون سيقانهم وألسنتهم، ينزعون شعورهم ولحاهم، لقد كان واضحا أنهم يفعلون ذلك من أجل المتعة" ويؤكد دوران أن كل الشهود فى برنامجه الوثائقى مستعدون للإدلاء بشهاداتهم فى أى تحقيق دولى، وتحديد هويات العسكريين الأميركيين الذين ارتكبوا هذه الجرائم.
لكن أين بقية الأسرى؟ يتساءل دوران عن مصير 5000 رجل من أصل 8000 تم أسرهم، ربما هرب القليل, وربما اشترى بعضهم حريته, كما يشير دوران نقلا عن شهود عيان خلال تحقيقه الذى استمر ستة أشهر، ولكن أغلبية الباقين تم قتلهم بين حصن قلعة الزينى وسجن شربرجان ورمال صحراء دشت الليلى على مدى أربعة أيام بتواطؤ الجنود الأمريكيين كما يقول دوران.
آدم جونز أستاذ الدراسات الدولية بمركز أبحاث سايد بمدينة مكسيكو، يشير إلى أن وزير الدفاع الأميركى دونالد رامسفيلد كان قد صرح بعد سقوط نظام طالبان أنه لا يحبذ أى تفاوض يؤدى إلى استسلام قوات طالبان قائلا
"أمنيتى أن يقتلوا" ويعلق جونز قائلا "فى النهاية, حصل رامسفيلد على مبتغاه، حيث أن آلاف الرجال أخذوا أسرى ثم قتلوا".
لماذا يرتكب الجنود الأميركيون هذه الجرائم؟ لماذا يعاملون الأسرى فى أفغانستان والعراق بهذه الوحشية؟ يجيب عن ذلك الصحفى البريطانى روبرت فيسك متحدثا عن المعاملة السادية للسجناء (إنها جزء من ثقافتنا، تقليد قديم يعود إلى الحروب الصليبية مؤداه أن المسلمين قذرون، فساق، غير مسيحيين، غير جديرين بالإنسانية.. لقد أثبتنا أن حربنا هذه غير شرعية وغير أخلاقية وقد أظهرت صورا تكشف عنصريتنا) وينهى الكاتب مقاله معلقا بسخرية على الأحداث قائلا (عندما نرى صور هذه المذابح فإننا نسأل أنفسنا على أى جانب نحن؟ على جانب القتلة أم المقتولين؟ وإذا ظهر لنا أن الجانب الطيب هو الجانب الآخر، فماذا يعنى ذلك؟).
فى النهاية.. فقد قتل الأمريكيون مع حلفائهم الأوزبك أو اشتركوا فى قتل أو أشرفوا على قتل نحو ثمانية آلاف أسير أفغانى بعد أن ألقوا السلاح واستسلموا لهم مخالفين بذلك جميع المعاهدات والشرائع والقوانين باستثناء قانون الغاب، والسؤال المنطقى هنا لماذا لايعامل مقاتلوا طالبان الأمريكيين بالمثل.. بمعنى آخر لماذا لا يقتلون الأسير الأمريكى كما قتل الأمريكيون أسراهم.. ربما لأن عقيدتهم التى يؤمنون بها تمنعهم من قتل الأسير والشيخ والطفل، هذا إذا كانوا يؤمنون بها حقا.
أعود إلى تعليق المتحدث باسم الخارجية الأمريكية على قيام طالبان بأسر الجندى الأمريكى فى أفغانستان واستنكاره لنشر شريط فيديو يظهر فيه الجندى الأمريكى الأسير وهو جالس على الأرض فى أمان يرتدى جلبابا نظيفا أمامه زجاجة مياه وبعض الفاكهة يوجه حديثه إلى الشعب الأمريكى ليمارس الضغط على الحكومة الأمريكية لإيقاف العدوان الأمريكى وسحب قواتها من أفغانستان، وأطرح السؤال مرة أخرى!!
إذا كانت هذه حضارة طالبان وهذه حضارتكم.. فمن منكم الإرهابى؟
* لواء أركان حرب متقاعد – خبير إستراتيجى
المراجع :
• مجلة News Week الأمريكية فى عددها الصادر فى 26 أغسطس عام 2002
• مجلة ليموند ديبلوماتيك سبتمبر 2002
• المنتج الاسكتلندى جيمى دوران - منتج البرنامج التلفزيونى الوثائقى "قافلة الموت"
• صحيفة الجارديان البريطانية 14 سبتمبر 2002
• موقع كاونتر بنش 8/9 مايو 2004
• صحيفة نيويورك تايمز
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة