بدا شخصا آخر غير الذى كان، بعد ارتدائه قميصا أبيض وبنطالا من ذلك النوع الذى يرتديه "الفيس برسلى" وانتعاله صندلا بسيطا وأنيقا فى نفس الوقت... حتى الهواء الذى يتنفسه أحمد الآن غير الهواءالذى كان يتنفسه منذ دقائق بلباس الأسر.
قاده العسكرى المرافق له حتى انتهى إلى غرفة بها الضابط الذى مارس معه ذلك التحقيق اللعين، وما أن استقر أحمد أمام الضابط حتى دخل شخصان المكتب ووقفا خلف أحمد....
تبادل الجميع النظرات السريعة ثم أطلق الضابط كلماته فى وجه أحمد بسخرية وهو يناوله ورقتين من فئة العشرة دولارات ويقول بالعبرية: "دعوه يرى ويمرح فى إسرائيل قدر المستطاع".
التفت أحمد خلفه فوجد فتاة ملامحها شرقية، بدت من عبارة ترحيبها به أنها يهودية مصرية، كان الفتى الآخر هو سائق السيارة الفولكس فاجن التى أقلتهما بعد ذلك، وكان يهوديا إيرانيا..
ركب الجميع السيارة التى انطلقت بهم وسط قرى الدروز مرورا بجبل "الكرمل" وبدأت الفتاة تقوم بدور المرشد السياحى لأحمد وذلك بعد تبادل عبارات التعارف التى أكدت لأحمد أن الفتاة راشيل بالفعل مصرية وكانت تسكن مع أبيها بالإسكندرية قبل هجرتها إلى إسرائيل سنة 1956 .
أحمد ينظر من زجاج السيارة المنطلقة بهما إلى مساحات العمران ثم يلتفت إلى راشيل قائلا: آه، هى ده بقه المستعمرات؟
راشيل : بلاش كلمة مستعمرات، خليها "كيبوتس" لو سمحت.
هز أحمد رأسه باستسلام وقال: ماشى..احنا حنروح فين دلوقت؟
راشيل : حنروح لكيبوتس موجود على الحدود السورية وحنتغدا هناك، بعدين حنروح لحيفا، تسمع عنها؟
أحمد : أعرفها مدينة على الخريطة الفلسطينية.
راشيل بسخرية: لكنها مدينة على خريطة الواقع إسرائيلية.. بالمناسبة، نفسك تتعشى إيه؟
أحمد بلامبالاة: كباب وكفتة.
راشيل: اتفقنا.. وبعد كده نروح تل أفيف وأفرجك على شوارعها والحياة هناك عاملة ازاى.
أحمد بسخريته المتواصلة: يا سلام بيوت؟ يعنى مش صفيح وصاج.
نظرت راشيل لأحمد باشمئزاز وقالت: بص بعينك واحكم.
تابع أحمد مراحل هذه الر حلة باهتمام وتأمل وكان يسجل كل ما يشاهده من أماكن وملامح للحياة وسلوكيات التعامل بين الناس.. حتى أسماء الشوارع وأنواع الأكلات.. بدا الواقع له مغايرا تماما لما كان يظن أو يسمع، فقد شاهد أثناء زيارته لتلك المستعمرة نظاما شيوعيا صرفا للحياة فيها، الفلل عبارة عن غرفة ودورة مياه وصالة صغيرة بدون مطبخ، الكل يأكل نفس الطعام فى توقيتات محددة، الأطفال يولدون هناك ثم يؤخذون من سن شهر حتى سنة، ليتربوا فى ظروف واحدة وعلى أسلوب معين.
الأكل كله لحوم ودجاج وليس كما كان يظن فول وعدس وبصل، والاستخدام الأكثر هناك للبيرة وليس للماء..
شاهد أحمد هناك أناسا كبار السن، يمسكون بأقفاص وسلات، حاول سؤال أحدهم فى اليوم التالى من رحلته، لكن راشيل وفرت عليه عناء السؤال وقالت له: لو مكنتش فطرت، الناس ده واقفة عايزين يساهموا فى الحملة العسكرية، علشان يأكلوا العساكر..
من أكثر الأشياء التى لفتت انتباه أحمد فى كل الأماكن التى زارها، النظافة، وتلك الرائحة التى كانت تفوح من الصابون، حيث كان يحرص على دخول المرحاض فى أى مكان كان يذهب إليه بصحبة راشيل، التى كانت تتحاور معه فى شتى الموضوعات السياسية والاقتصادية وحتى الأيديولوجية...أما ذلك السائق ذو الأصول الإيرانية، فكان لا يبرح السيارة على الإطلاق، وكل شىء يصله وهو بداخلها سواء كان طعاما أو شرابا.
لكن مشاهد الأسر التى عاشها أحمد تذهب وتجىء فى خياله منذ اللحظة الأولى التى وطئت قدماه معسكر الأسر فى مدرسة الحسنة الابتدائية بسيناء مع مجموعة الضباط والعساكر المصريين والذين أسرو بطريقة هزلية تبعث الضحك والبكاء فى آن واحد، قبل نقلهم إلى غزة ثم إلى معسكر "عتليت" بإسرائيل، خاصة لحظة وقوعه فى الأسر وهو يصرخ فى زملائه الأسرى بطريقة هستيرية "أوعو حد يذل نفسه لولاد الكلب دول، انتو مصريين"
ويواصل الصراخ فى وجه الجنود الإسرائيليين بعد أن يطرحوه أرضا ويدوسو على رقبته بأحذيتهم" مش علشان بق ميه أو سيجارة، أوعو حد يذل نفسه".
لقد رأى ساعتها يدا تمتد نحوه بزجاجة كوكاكولا وقطعة شكولاته كبيرة، كان حلقه قد جف من الصراخ والحرارة، وكاد أن يفقد وعيه أمام برودة زجاجة الكولا والتى بصق عليها بما تبقى فيه من عزم.
عناده ورفضه السكوت، لفت الانتباه إليه.. ما جعل أحد الضباط يتجه إليه ويبعد أقدام الجنود عنه، ثم يمد له يده ويساعده على الوقوف... ومنذ تلك اللحظة وهو يحظى بمعاملة مختلفة حتى أثناء الاستجواب.
لقد مر يومان حتى الآن، وها هو اليوم الثالث الذى سيعود فيه إلى معسكر عتليت، بعد زيارة أماكن متفرقة فى إسرائيل، ووقوفه على طبيعة الحياة داخلها، وعلى ما يبدو أنه عاد بانطباع مغاير لغير ما كان يعتقد.
الأسير رواية لعبد الله يسرى