شاءت الأقدار أن تجعل سائق الأتوبيس (باص هيئة النقل العام بمصر) رمزا لحقبتين إحداهما حالكة الظلمة والثانية بدأت تتبين فيها الخيوط الأولى من الخيط الأول من فجر الحرية.
فى الحقبة الأولى كان فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" يحكى قصة واقعية عن حال الشعب المصرى الذى أتى البكباشى عبد الناصر والرهط المرافق له من نفر غير مبصر على مكونات الشعب المصرى الاجتماعية فهدمها من القواعد بحجج الوطنية والاشتراكية والقضاء على الاستعمار، ليفتح فيما بعد الباب لتتحول البلدان العربية كلها ومن جوارها إفريقيا إلى جمهوريات هى أقرب للعزب التى يكون الحاكم فيها هو المالك ومن عداه وأسرته عبيد مجردون من الآدمية ولهم مكانة الأشياء قانونا وليس مكانة الإنسان.
ولم يدخر فى ذلك البكباشى عبد الناصر ورهطه وسعا فى سبيل استتباب الأمر لهم أى وسيلة إلا وانتهجوها مهما كانت بشاعتها وخستها، وعلى رأس تلك الطرق التى اتبعوها كان إلغاء الحريات وإلغاء كافة مظاهر الحقوق الأصيلة للإنسان ككائن اجتماعى من تجمع وتظاهر أو إضراب عن العمل ناهيك عن العهود والمواثيق الدولية، بل والشرائع السماوية التى كفلت له تلك الحقوق، وبذلك تم إعلان دولة الفرد ودخول مرحلة استرقاق الشعب.
وكان فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" خير تعبير عن تلك الحقبة الآثمة والتى لا تتناسب بحال من الأحوال مع شعبنا المصرى العريق صاحب الحضارة الأولى وأول من أخرج للإنسانية سبل هاديتها من الأرض باختراعه الكتابة ومن السماء بنزول أول دين سماوى على موسى فى أرضه وعلى ترابه وكأن هذا الشعب يقول للكون أنا الأول وتصادق على قوله عملا السماء.
أما الحقبة الثانية والتى نحن يصددها الآن فهى بداية الانقشاع للحقبة الأولى وآثارها السوداء على شعبنا، وأعتقد جازما أنها ستكون بداية لمرحلة جديدة يعم فيها مناخ من الآدمية والحرية على شعب هو أهل لتلك الحرية.
ففى الأعوام القليلة السابقة تم تنظيم بعض التجمعات العمالية فى أنحاء مختلفة من مصر حيث كان بعضها تنديديا والبعض الآخر إضرابى وغنى عن الذكر، إن مثل تلك التجمعات والتجمهر لم يكن بوسع أى طائفة من الشعب المصرى مجرد التفكير به لعقود طويلة من الزمن على الرغم من شرعيته وضمانه كحق بمقتضى القانون.. فالترتيب الهرمى للأولوية التطبيقية يأتى بالدستور على قمة الهرم ثم يليه الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التى تكون الدولة طرف بها، ثم بعد ذلك القوانين العادية كدرجة ثالثة يليها فى المقام الرابع اللوائح التنفيذية. وإذا عرضنا الأمر قانونا فإننا سنجد أن الدستور كفل للمواطن الحرية كمان أن المواثيق والعهود الدولية والتى مصر طرف بها تكفل حرية العمل وحرية الامتناع عن العمل للمواطنين، فنصت المادة الثامنة الفقرة 3 (أ) من العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ((ولا يجوز إكراه أحد على السخرة أو العمل الإلزامى)) وعلى هذه الفقرة ينبنى الحق فى الإضراب عن العمل، بل إن تشريعات الدول الديمقراطية قد سنتها بين دفتها كضمانة راسخة لشعوبها فى حال الانسحاب من الاتفاقية.
كذلك غنى عن البيان أنه ببداية حكم البكباشى جمال عبد الناصر كانت هذه الحقوق تصنف من باب الجرائم العظمى والتى قد تؤدى بمن يفكر مجرد تفكير بها إلى أن يلقى حتفه على يد رجال الأجهزة الأمنية فى تلك الحقبة واستمر الأمر على ذلك مع التخفيف من وتيرته حتى كانت انتفاضة يناير 1977 والتى حاول السادات بعدها إغلاق باب الحريات، ولكن لم يكن لأحد القدرة على منع هذا الحق من الرجوع الصحابة.
بدأ المشهد منذ 1977 حتى يومنا هذا فى صورة صراع بين الحاكم والمحكوم على المساحة الممكن ممارستها من والقدر الممكن تفعيله من تلك الحريات والتى ترتبط بكينونة الإنسان الآدمية وبطبيعته ككائن اجتماعى تكون حاجاته الاجتماعية مقدمة على احتياجاته الفسيولوجية، حتى كان يوم مبارك فى تاريخ شعبنا هو التاسع عشر من أغسطس سنة 2009 والتى استجاب فيها رئيس وزراء مصر لطلبات سائقى الأتوبيسات المضربين، معلنا بذلك نهاية حقبة آثمة من القمع وموقعا بالإقرار على فتح باب سيدخل منه ضوء سنجنى ثماره فى السنوات القادمة من حرية وتحرر من القيود والأغلال التى وضعت فى أعناق هذا الشعب ردحا من الزمن.
كان الشعب المصرى ولوقت قريب يستخدم مقولة "إحنا بتوع الأتوبيس" كافية للتعبير عن القهر والتعسف والجور الذى يتعرض له والآن فإنى أراهن أن نفس الجملة سيرددها شعبنا فى المستقبل مع التغيير فى الدلالة التعبيرية المستوحاة من أن من فتح باب الحرية الحقيقية وجعل القمع ينهزم ويوقع صك هزيمته فى تلك المعركة ودق حصونه هو سائق الأتوبيس المصرى وأنى لعلى قناعة أيضا أنه سيأتى يوم يخلد التاريخ صانع هذا الحدث لحد القول أن الشعب المصرى بأسره سيتباهى يوما صارخا "إحنا بتوع الأتوبيس" كتعبير عن مدى فخره واعتزازه بمن فتح له هذا الطريق وكيف لا والشعب الفرنسى يعلى من العامل ويرفع شعارا له، لأنه من فتح له باب الحرية والشعب الأمريكى كذلك، لأنه ألغى بين شرائحه العرق والعبودية.
رئيس مركز السوربون للقانون الدولى والعلاقات الدولية*
باريس – فرنسا
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة