لا أدرى لماذا يندهش البعض من حوادث الانتحار التى يقوم بها رجال الأعمال فى الفترة الأخيرة، والذين هم غالبًا من سكان مصر الجديدة. لا أتهم سكان مصر الجديدة بشىء ـ لا سمح الله ـ لكن الذى تعارفنا عليه دائمًا أن سكان مصر الجديدة هم كريمة المجتمع القاهرى مثلهم مثل سكان الزمالك والمعادى. وعندما نقرأ تفاصيل الخبر وخلفياته نجد أن رجلى الأعمال اللذين نحرا عائلتيهما كانا يعانيان من ضائقة مالية وأنهم كانا يخشيان على عائلتيهما من الفقر والعوز والذل من بعد عز وبغددة.
هنا تتضح الحقيقة جلية واضحة، فرجلا الأعمال جعلا هدفهما فى الحياة المادة أولاً وثانيًا وأخيرًا، وأنه بدون مادة لا معنى لحياتهما ولا داعى لتعذيب ذريتهما بالعيش فى بلدنا الحبيبة. لست أعترض على هذا المفهوم بشكل كامل، لأن به قدر من الصواب، لكن الإيمان التام به لدرجة الانتحار هو الذى يجب أن يكون موضع دراسة وبحث من الإخصائيين النفسيين والاجتماعيين.
بالطبع هناك قلة إيمان لدى هؤلاء وربما جهل دينى، لكن هناك دلائل أخرى ينبغى أن لا نغفل عنها وربما تكون السبب الحقيقى فى حدوث هذه الظاهرة التى ستكرر مع هذه الأزمة المالية العالمية. أمس كنت أسأل صديقى وهو يحاورنى: ما هو المشروع القومى الأعظم والأكبر لكل مصرى؟ قال لى: الشقة والسيارة والوظيفة التى تدر الدخل المرتفع أو المشروع التجارى الذى يجلب الذهب ومن ثم الفيلا وقصر الساحل الشمالى وهلم جرا كلما زادت الطموحات. سألته: وهل يحلم أى منا بمشروع قومى للبلد الذى نعيش فيه؟ قال لى: "ياكش تولع"...إذن فنحن فى سبيل الوصول إلى تحقيق المشاريع الشخصية لا يهمنا أى شىء. لا يهم إن كان هناك فساد أم لا، لا يهم إن تحول البلد إلى غابة أم لا، المهم أن أحصن نفسى بما يجعلنى أتقى كل هذه الشرور التى تحيط بى.
إذا توفرت لى المادة سأشترى خضار عضوى (مش مسقى بالمجارى) وسأشرب مياه معدنية (مش بتجيب فشل كلوى)، وسيكون لى أصدقاء يحموننى من البهدلة فى دواوين الحكومة وسأستطيع كسر الإشارة وتخطى السرعة، لأن هناك من سيعيد إلى الرخصة، وهكذا. إن مفهوم التمحور حول الذات وبناء الحواجز بين الفرد والمجتمع الذى يعيش فيه هى السبب فى انتحار رجال الأعمال، وهى السبب فى أن "يفقعنا" السيد أحمد عز تصريحات من نوعية الشعب المصرى. وعندما يقرّ فى العقل الباطن لأحدنا مثل هذه المفاهيم ويبدأ فى بناء التحصينات ثم فجأة ينهار كل هذا ونجد أنفسنا مجردين من كافة أسلحة مواجهة الغابة التى نعيش فيها، حينها قد لا يجد قليل الإيمان منا أمامه إلا الانتحار ونحر بقية عائلته لتجنب المصير الذى طالما حارب الوقوع فيه. هذه الحوادث ما هى إلا ترجمة فعلية لمصطلح "ياكش تولع".
إن الجحيم الذى نعيش فيه جعل الإنسان المصرى يتصرف وكأنه يفر بنفسه فى يوم الحشر وعليه أن يفلت من المصير الذى يراه فى برامج جمع التبرعات للمرضى ومناقشة الكوارث والأوبئة وحوادث التعذيب. أما مصر فأقصى ما نستطيع أن نفعله لها الآن أن نقول: لها الله، ثم يسير كل منا فى طريقه. لقد رفعنا شعار "ياكش تولع" منذ نهاية آخر انتفاضة شعبية عام 1987 فلا عجب أن نجد د.سامية جلال مستشار صحة البيئة بالأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، تعلن أن مصر حالة ميئوس منها فيما يتعلق بالخدمات العامة خاصة الخدمات الصحية.ًفعلاً يا دكتورة سامية، مصر حالة ميئوس منها، ولهذا ينتحر رجال الأعمال المفلسون!.
