أروى الكعلى تكتب:الإنسان الافتراضى المعاصر‏

الإثنين، 17 أغسطس 2009 11:56 ص
أروى الكعلى تكتب:الإنسان الافتراضى المعاصر‏

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لقد طور الإنسان حضارة جديدة حتى يسود العالم لكن يبدو أن هذا الحلم السلطوى الأزلى قد فشل، لقد سادت المعلومات العالم وأصبح الإنسان عبدا لما صنعه بيديه، لقد باتت كل نشاطاته التى يمارسها رهن جزيئات صغيرة، قد تفقده آلاف الدولارات، أو تتركه فى مواجهة دوار الأفكار المتداخلة.

فى العالم الافتراضى الجديد أصبح القرار الأخير للمعلومة، هى التى تحدد ما إذا كنا نستحق فعلا أن نعيش أم أننا مجرد كائنات طفيلية، لقد تعود الإنسان منذ زمن سخرية القدر، فجملة التناقضات التى يعيشها كل منا فى حياته اليومية ستصنع لديه يقينا بأنه لا محالة فى مكان ما يجلس القدر ليسخر منه، هى مجرد كذبة وجودية أخرى، فالإنسان يعلم جيدا أن هذه التناقضات من صنع يديه، لكن تحميل القدر مسئوليتها أسهل بكثير وأقل تكلفة؛ فالقدر إذن سخر من الإنسان عندما دفعه إلى اختراعات واكتشافات ثورية ثم تركه فى مواجهة استعباد المعلومات، ووجها لوجه مع برامج تسرق جهده وخصوصيته، لقد تخيل الإنسان أن التكنولوجيات الحديثة ستحول عالمه الصعب المعقد إلى عالم سهل مريح، وسائل الرفاهية فيه قد تفرغ الحياة من معناها لكن ذلك لو يحدث، فعالم الإنسان أصبح مفتوحا ولم تعد له أسرار، كل ما يحمله أى حاسوب مرتبط بالإنترنيت معرض للاستنساخ أو السرقة, بطريقة أو بأخرى هو ملك العالم, والخصوصية المزعومة ليست إلا وهما منتفخا، و قد تحول مصيره إلى جملة من الاحتمالات والفرضيات ففى حال نسى أن يخزن عمله الذى باشر كتابته على حاسوبه فإن كل شىء قد ينتهى فى لحظات ويعود من جديد إلى نقطة الصفر كأن ما كان ينجزه افتراضى أيضا، لكن ما لم يتفطن له هذا الإنسان أن هذا العالم الافتراضى جعل منه إنسانا افتراضيا يحتل مكانا على الإنترنيت يكتب اسما مستعارا ويضع صورة افتراضية ويصنع لنفسه ملفا افتراضيا يختزل نفسه فى أرقام ولا يتوانى أبدا عن تزييفها وشيئا فشيئا يدمن هذه الأرقام ويفضل أن يكون افتراضيا على أن يصفعه الواقع كما تعود.

لقد أدمن الإنسان الافتراضى هذا العالم وطور ملكات متاحة وسهلة (دون أى إبداع طبعا) أصبح الكذب سهلا جميلا بل هو سمة عصر الذكاء، وأصبح العالم وكل الإطار القيمى للإنسان فى شكل خوارزميات، تحولت القيم والمعانى والمبادئ والمفاهيم إلى رموز معقدة، أما ظاهريا فهى موضة تكنولوجيا العصر، فتعدل الصور وتختفى العيوب وتروج صورة الإنسان الكامل، ويدمن الإنسان الافتراضى هذا العالم أكثر، عالم خال من العيوب عالم كامل عالم الألوان، عالم اللا محدود، عالم كلما غصت فيه ازداد جوعك للمزيد؛ الفتيات فيه أجمل بكثير مما هن عليه فى الواقع، الألوان فيه أوضح، البلدان فيه أجمل، الثروة فيه أقرب، الدقة، الذكاء هى سماته الأساسية، عالم متطور من الخداع والاغتراب بفضل هذه التكنولوجيا يغترب الإنسان عن نفسه؛ فالإنسان لا يرغب فى نفسه أبدا؛ بل يدمن شخصية الإنسان الافتراضى، أما مكونات هذا العالم الافتراضى فهى- طبعا- أناس افتراضيون فجأة تتراجع سلطة الآخر ولا يبدو تأثيره فى وجود الأنا مباشرا كما تحدث عنه سارتر عندما قال "الآخر هو الجحيم" لكن فى نفس الوقت تبرز صورة مثالية وكاملة عن الآخر الذى لا نعلم عنه شيئا، وبشكل ما تتراجع قيم الاحترام لصالح السلطة والتملك وحب السيطرة على الآخر ويختزل وجود هذا الآخر أو عدم وجوده فى لمسة واحدة؛ يمكن أن نمحوه ونلغيه فى لحظة من قائمة الأصدقاء الافتراضية كأن شيئا لم يكن.

فرصة لم تتوفر للإنسان فى العصور الوسطى أبدا! يعيش الإنسان الافتراضى وهم التواصل والتعارف وتبادل الأفكار و"الانفتاح على الآخر" أو ربما وهم تواصل الحضارات لكن الإنسان الافتراضى يتواصل افتراضيا ويتبادل أفكارا افتراضية وأعنى بافتراضية هنا وهمية، فأصبحنا نسمع عن علاقات افتراضية وعمل افتراضى ونقرأ الكتب دون أن نلمسها ونشاهد الأفلام دون أن نجرب متعة السينما ونزور المتاحف دون أن نتحرك من مكاننا.

أصبح الإنسان لا يعيش فعلا بل يفترض ذلك، وربما يأتى يوم يتزوج فيه الناس افتراضيا وكما سمعنا عن طفل الأنابيب نسمع عن الطفل الافتراضى، وقد يأتى يوم تصبح فيه الأحلام افتراضية والسعادة افتراضية، ويصبح الإنسان قادرا على تحقيق الكثير مما خطط له؛ لكنه لن يلمس يوما نجاحه بيديه؛ لأن نجاحاته ببساطة افتراضية.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة