خرجتُ من صلاة الجمعة حزيناً ومكتئباً، ماذا فعلت؟، قمتُ بكل حركات الركوع والسجود لكننى لم أُصل، كنتُ منشغلا بالسباك الذى سأبحث عنه، وبالخناقة التى لا بد وأن "أتخانقها" مع السمسار الذى دلنا على الشقة، لم أسمع من الخطيب كلمة، ولا أذكر الآيات التى قرأها فى الركعتين ولا من أى سورة، كل ما أذكره أن صوته كان مبحوحا.
تحت شمس حارقة وشوارع غريبة وبشر متوجسين من بعضهم البعض رحتُ أبحث عن "الزفت" وهل سيتعامل معى باعتبارى سائحا ويستغفل أمى، أم أنه لابد من استخدام طريقة الهجوم بحيث "اعمل صايع ومدردح"؟!.
راحتْ الجمعة على أية حال، راحتْ التى كنتُ أنتظرها منذ يناير الماضى عندما قررت أن يكون المصيف هذا العام بحثا مخلصاً عن لحظة "النور"، عن صلاة حقيقية، كنت ساعتها قد أصابنى الاكتئاب نفسه، فأنا لا أصل إلى لحظة النور التى تخطفنى من الحياة وهمومها ومشاكلها وعراقيلها رغم أننى أتوضأ وأصلى خمس مرات فى اليوم!! ما هذا العبث؟ لقد أصبحتُ عاجزا عن الإخلاص لحظة لفاطر السموات والأرض، ماذا أفعل؟ ومتى تتوقف الساقية التى اكتشفت أننى مربوط فيها مثل طور مغمض العينين؟، ووصلتُ ساعتهاـ فى يناير يعنى- إلى قرارات حاسمة لوقف تلك المهزلة التى اسمها "الحياة".
أربعون عاماً مضت من العمر وأنا أنتظر مجىء تلك اللحظة، أن أتوحد مع رب العباد الذى خلقنى فى كبد لم يخلق فيه عبداً آخر على ما أظن، مضت سنوات الدراسة ومجموعها (16 عاما)- ستة ابتدائى وتلاتة إعدادى وتلاتة ثانوى وأربعة جامعة- وأنا "أُمثل" الخشوع أيام الامتحانات حتى أنجح، وعندما أحببتُ الفتاةـ التى هى زوجتى الآن- دعوته راجياً أن يجعلها من نصيبى، وتحققت الأمنية، لكن الباقى كان صعبا للغاية، ولا أقصد ما دار فى ذهنك، بدأ التفكير فى الشقة والعفش.. وإيه عليهم وإيه علينا؟ ومين يجيب السجاد والنجف؟، وعمّها الغتت وخالها الرخم والست التخينة اللى كانت هتبوظ الجوازة.. التى لم "تبوظ" وحصلتْ بحمد الله منذ 14 عاما، ضف عليهم الـ16 اللى فوق بخلاف ست سنوات طفولة بائسة بلا نور من أى نوع وفى قرية تسمى برطباط الجبل بالمنيا لم ولن تتذكرها حكومتان غابرتان.. وثالثة قابعة فى أماكنها.
لكن أين أنا؟ أين يا رب العالمين تلك الراحة من "الحياة" كى أصفوا لك وحدك.. ودونما طلب أو بحث عن حورعين وأنهار عسل، ودونما هروب من ثعبان أقرع يضربنى على أم رأسى فأهوى سبعين ذراعا؟
لا أريد لقب متدين أو ملتزم أوبتاع ربنا، لا أريد زبيبة على جبهتى ولا أنوى ارتداء جلباب قصير، ولا أريد أن أصلى كأنما أذاكر لامتحان لابد وأن أنجح فيه، أريد لحظة نور.. والعمر يمضى، فهل سأنتظرها على سرير فى مستشفى والخراطيم تتدلى من هنا وهناك؟!
هل يكفى أننى لا أزنى ولا أسرق ولا أرتشى.. هل يكفى أن أغض البصر وأضع المصحف فى السيارة.. وأبسمل كلما اضطجعتُ أمام الدريكسيون حتى يسترها عليا ربنا وما اعملش حادثة.. و"اشغل" المنشاوى أو الطبلاوى وأنا مسافر؟، هل يكفى كل ذلك؟ هل تكفى الصلوات الخاطفة البارقة السريعة المشغولة؟ وهل هناك غيرى يصلى دون أن ينشغل بالدنيا حتى وهو يحاول أن لا ينشغل بها؟!
إن شيئاً ينقصنى.. شىء غامض فى الروح.. أريد راحة حقيقية بين يديه سبحانه.. أريد أن أصل إلى تلك اللحظة الصافية الخالدة كى أتأمل نوره الذى لا يمكن وصفه بحروف سوداء أكتبها الآن كما تقرأها أنت.
أريد لحظة بلا ضفاف أو خوف من التأخيرعن العمل وتدبير مصاريف البيت والكهربا وإيجار الشقة وحاجة رمضان!، لحظة واحدة تخطفنى من تلك الحياة.. وميض نور يخطفنى فأخشع باكياً بين يديه خشوعا ليس كالخشوع وبكاء ليس كالبكاء.
لقد حدث ذلك الوميض مرة فى حياتى، فمنذ عشر سنوات وأنا أتحمس لصوت الشيخ المنشاوى فى التجويد.. أحسبه على خير يعنى.. لكنها مرة واحدة تلك استطعمت فيها المعانى وخطفنى برق إلى هناك فسالت دموعى وتدفقتْ وانهمرتْ، وتحولتُ إلى طفل يشهق دون أن يعرف كيف يتوقف، صفاء ونور يخطف الأبصار والقلوب.
جاء صوت المنشاوى "إِنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ".
يا الله.. يا خالق يا عظيم يا متجلى.
وفى الصباح كان جسدى مريضا:ألم فى سمانتى الساق، والظهر، والرقبة، فخشيت أن يكون مسّنى عفريت من الجن، ولم أصدق أننى كنتُ هناك بين يديه.
الشمس التى تسقط على رأسى الآن من عجائب خلقه، لكننى لستُ مشغولاً سوى بلهيبها فى رحلة البحث عن الزفت السباك.. ومش عايز انسى الطلبات وانا راجع: أقراص ريد عشان الناموس.. وكنكة صغيرة وطبق واسع للغسيل، والعيال نفسهم فى المنجة، ضاعت صلاة الجمعة على أيه حال.
ماذا حدث لى، ولماذا أنا دوناً عن خلق الله؟!هل هناك آخرون حائرون مربوطون فى الساقية نفسها؟ هل هناك من يشعر بالخزى مثلما أشعر؟
أذكر أننى ركعتُ على قدمى وأنا رايح م الثانوية ع الكلية، وحمدته على نعمته عندما رزقنى طفلتين أعقبهما بمروان، وفى مولد الثلاثة، انهمرتْ الدموع ورددّ اللسان كل كلمات الشكر لفاطر السموات والأرض.. لكنها دموع الحياة وليست نور السماء، لحظة تنتهى ليبدأ بعدها التجهيز للسبوع والرويعى والمغات والهون والعقيقة.. وماء غريب عشان المغص.. والعضاضة.. والمشاية.. والحضانة.. وكى جى وان.. وتجريبى ولا حكومى ولا الهوى رماه.. وربنا يخلى.. أجيال التيران التى ستلف فى نفس الساقية.. دون أن تومض قلوبنا وتخشع خشوعا.. يصعب على الكلام وصفه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة