وائل السمرى يكتب: من أمير الشعراء إلى الشعب العربى: صوتلى شكرا
وائل السمرى
جميلة هى بسمة الطفل، وضحكته ودمعته وصرخته، كل شىء فى الطفل جميل حتى "الرخامة" نَحِنُ إلى مرحلة الطفولة وإلى عبثها الجميل، لكن الحنين إلى الشىء لا يعنى ضرورة الرجوع إليه، فلو ظل البشر فى هذه المرحلة ما كانوا ليحلموا وينتجوا ويحبوا ويصنعوا ويتقدموا، ما كانوا حتى ليدركوا وجودهم وماهيتهم ومتطلبات عصرهم، تبدو هذه الأمور من المسلمات لكن هناك من لا يقتنعون بهذه المسلمات فيحاولون أن يرجعوا إلى الطفولة بكل ما أوتوا من قوة، ولنتخيل الآن أن رجلاً بالغاً حاول أن يعود إلى الطفولة فلبس "سولوبيت" وصفف شعره مدليا إياه على جبهته وابتكر "لثغة" فى لسانه، ومشى يتراقص هازاً ردفيه، فأى صورة كاريكاتورية سيكون عليها هذا الرجل البالغ الرشيد؟ إن أردت أن ترى مثالاً حياً لهذا الهزل السخيف فشاهد إعادة حلقات "مسابقة أمير الشعراء" التى انتهت فعالياتها أمس الأول، لتعرف كيف يحاول العرب جاهدين أن يعيدوا الشعر العربى إلى مرحلة البدايات التى لا يستطيع أحد أن يغفل جمالها وعظمتها، لكن الجمال والعظمة لا تعطى لأحد مبررا للرجوع إلى الخلف، والتنكر لكل القيم الفنية التى ابتكرها شعراء العربية على مر العصور.
منذ ثلاث سنوات أى منذ بداية فعاليات هذه المسابقة لم تقدم جديداً للشعر العربى، بل على العكس، أخذت بيد كثيرين وأرجعتهم إلى الخلف، خذ مثلا شاعراً مصرياً قيل عنه فى بداياته إنه أمل الشعر العربى الموعود، ومتنبى هذا العصر، ما الذى فعلت به الجائزة، أجبرته على أن يتنازل عن كل تقدم فنى اجتهد فى الوصول إليه، وأصبح أكثر ميلا إلى المباشرة والاستسهال، والخطير فى هذه الجائزة أنها تساهم فى تسييد ذوق فنى أقل ما يقال عنه إنه قديم وبالٍ ومتحجر، كما أنها فتحت الباب أمام التعصبات القبلية للظهور، عبر تحكم الجمهور فى التصويت وترجيحهم لكفة الشاعر الفائز بالمليون من خلال رسائل (الأس أم أس) فليس غريبا الآن أن ترى واحداً من أصدقائك يطلب منك أن تصوت لمرشح البلد الفلانى، أو لابن القبيلة الفلانية، وليس غريبا أيضا أن تصلك رسالة من شاعر مرشح للإمارة يقول لك فيها: صوتلى شكرا، أو أدعم بلدك برسالة، أو اتبرع ولو بـ"أس أم أس"، وهنا ينتحر الفن والجمال والتقدم التقنى، لتتقدم العنصرية للبلد أو للعرق أو للدين على حساب جماليات الشعر وفنياته وهمومه البعيدة عن الاستهلاك اليومى العابر.
حولت المسابقة الشعر فى حياتنا إلى مجرد "شو" ليس أكثر ولا أقل، أصبح الشعر الذى يهتم فى الأساس بالجوهر الإنسانى، مجرد زخرف ومساجلات وتحديات تافهة، فى استجلاب قافية صعبة، أو وصف بيت أو قصر أو امرأة، تنازل الشاعر عن دوره المكتسب كـ "رائى" ومتأمل وفيلسوف وحالة حضارية مستقلة بذاتها، ليصبح مرشدا سياحيا، ومناديا على بضاعة الاستهلاك، يحاول أن يقنعك بموهبته الفياضة فيصف لك الأحمر بالأحمر والأخضر بالأخضر والكاروهات بالكاروهات. فتح المزاد على الشعر، والكل خاسر، الشاعر الذى سيكسب، والجمهور الذى يصوت، والراعى الذى سيدفع، والشعر الذى سيتقهقر منزوياً وراء الصراعات المفتعلة والعنصريات المتأججة.
"نوبة رجوع" هكذا يحلو لى أن أسمى هذه المسابقة التى أعادت الشعر العربى إلى حظيرة الساسة، وجعلته بوقاً وزينة ومطية، بعد أن استعصى على الطالبين وأبى على المتنطعين، رجعت جماليات القصيدة العربية إلى مرحلة الطفولة، ورجعت إلى الأغراض القديمة مثل المدح والوصف والغزل والرثاء، ورجعت القصيدة إلى تقنيات الشعر القديمة والبلاغة القديمة والصور القديمة، ورجعت إلى التنافس الأعمى بين الذين يتحكمون برصيد تليفوناتهم فى إعلان اسم الفائز، وهكذا وضعنا الشعر وكأنه سلعة يعطيها الناس سعرها، وليس قيمة تعطى الوجود معناه الجمالى، وهكذا تفننا فى تبديد كل منجز اجتهد آباؤنا العظام فى تشييده، وهكذا أضعنا مشروع عبد الصبور والسياب والبياتى ودرويش وحجازى ودنقل وأبو سنة ونازك وجبران وأدونيس وغيرهم كثير، وما علينا الآن إلا أن نحتفل بأمير الشعراء الجديد بعد أن لبس "سولوبيت" وصفف شعره مدليا إياه على جبهته وابتكر "لثغة" فى لسانه، ومشى يتراقص هازا ردفيه قائلا: "أنا أمير السعلاء الكديد".
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جميلة هى بسمة الطفل، وضحكته ودمعته وصرخته، كل شىء فى الطفل جميل حتى "الرخامة" نَحِنُ إلى مرحلة الطفولة وإلى عبثها الجميل، لكن الحنين إلى الشىء لا يعنى ضرورة الرجوع إليه، فلو ظل البشر فى هذه المرحلة ما كانوا ليحلموا وينتجوا ويحبوا ويصنعوا ويتقدموا، ما كانوا حتى ليدركوا وجودهم وماهيتهم ومتطلبات عصرهم، تبدو هذه الأمور من المسلمات لكن هناك من لا يقتنعون بهذه المسلمات فيحاولون أن يرجعوا إلى الطفولة بكل ما أوتوا من قوة، ولنتخيل الآن أن رجلاً بالغاً حاول أن يعود إلى الطفولة فلبس "سولوبيت" وصفف شعره مدليا إياه على جبهته وابتكر "لثغة" فى لسانه، ومشى يتراقص هازاً ردفيه، فأى صورة كاريكاتورية سيكون عليها هذا الرجل البالغ الرشيد؟ إن أردت أن ترى مثالاً حياً لهذا الهزل السخيف فشاهد إعادة حلقات "مسابقة أمير الشعراء" التى انتهت فعالياتها أمس الأول، لتعرف كيف يحاول العرب جاهدين أن يعيدوا الشعر العربى إلى مرحلة البدايات التى لا يستطيع أحد أن يغفل جمالها وعظمتها، لكن الجمال والعظمة لا تعطى لأحد مبررا للرجوع إلى الخلف، والتنكر لكل القيم الفنية التى ابتكرها شعراء العربية على مر العصور.
منذ ثلاث سنوات أى منذ بداية فعاليات هذه المسابقة لم تقدم جديداً للشعر العربى، بل على العكس، أخذت بيد كثيرين وأرجعتهم إلى الخلف، خذ مثلا شاعراً مصرياً قيل عنه فى بداياته إنه أمل الشعر العربى الموعود، ومتنبى هذا العصر، ما الذى فعلت به الجائزة، أجبرته على أن يتنازل عن كل تقدم فنى اجتهد فى الوصول إليه، وأصبح أكثر ميلا إلى المباشرة والاستسهال، والخطير فى هذه الجائزة أنها تساهم فى تسييد ذوق فنى أقل ما يقال عنه إنه قديم وبالٍ ومتحجر، كما أنها فتحت الباب أمام التعصبات القبلية للظهور، عبر تحكم الجمهور فى التصويت وترجيحهم لكفة الشاعر الفائز بالمليون من خلال رسائل (الأس أم أس) فليس غريبا الآن أن ترى واحداً من أصدقائك يطلب منك أن تصوت لمرشح البلد الفلانى، أو لابن القبيلة الفلانية، وليس غريبا أيضا أن تصلك رسالة من شاعر مرشح للإمارة يقول لك فيها: صوتلى شكرا، أو أدعم بلدك برسالة، أو اتبرع ولو بـ"أس أم أس"، وهنا ينتحر الفن والجمال والتقدم التقنى، لتتقدم العنصرية للبلد أو للعرق أو للدين على حساب جماليات الشعر وفنياته وهمومه البعيدة عن الاستهلاك اليومى العابر.
حولت المسابقة الشعر فى حياتنا إلى مجرد "شو" ليس أكثر ولا أقل، أصبح الشعر الذى يهتم فى الأساس بالجوهر الإنسانى، مجرد زخرف ومساجلات وتحديات تافهة، فى استجلاب قافية صعبة، أو وصف بيت أو قصر أو امرأة، تنازل الشاعر عن دوره المكتسب كـ "رائى" ومتأمل وفيلسوف وحالة حضارية مستقلة بذاتها، ليصبح مرشدا سياحيا، ومناديا على بضاعة الاستهلاك، يحاول أن يقنعك بموهبته الفياضة فيصف لك الأحمر بالأحمر والأخضر بالأخضر والكاروهات بالكاروهات. فتح المزاد على الشعر، والكل خاسر، الشاعر الذى سيكسب، والجمهور الذى يصوت، والراعى الذى سيدفع، والشعر الذى سيتقهقر منزوياً وراء الصراعات المفتعلة والعنصريات المتأججة.
"نوبة رجوع" هكذا يحلو لى أن أسمى هذه المسابقة التى أعادت الشعر العربى إلى حظيرة الساسة، وجعلته بوقاً وزينة ومطية، بعد أن استعصى على الطالبين وأبى على المتنطعين، رجعت جماليات القصيدة العربية إلى مرحلة الطفولة، ورجعت إلى الأغراض القديمة مثل المدح والوصف والغزل والرثاء، ورجعت القصيدة إلى تقنيات الشعر القديمة والبلاغة القديمة والصور القديمة، ورجعت إلى التنافس الأعمى بين الذين يتحكمون برصيد تليفوناتهم فى إعلان اسم الفائز، وهكذا وضعنا الشعر وكأنه سلعة يعطيها الناس سعرها، وليس قيمة تعطى الوجود معناه الجمالى، وهكذا تفننا فى تبديد كل منجز اجتهد آباؤنا العظام فى تشييده، وهكذا أضعنا مشروع عبد الصبور والسياب والبياتى ودرويش وحجازى ودنقل وأبو سنة ونازك وجبران وأدونيس وغيرهم كثير، وما علينا الآن إلا أن نحتفل بأمير الشعراء الجديد بعد أن لبس "سولوبيت" وصفف شعره مدليا إياه على جبهته وابتكر "لثغة" فى لسانه، ومشى يتراقص هازا ردفيه قائلا: "أنا أمير السعلاء الكديد".
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة