فخ الأصدقاءقصة: ياسر شعبان

الجمعة، 14 أغسطس 2009 10:37 م
فخ الأصدقاءقصة: ياسر شعبان فخاخ قصة جديدة فى عالم الإبداع

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"أنبل شعور أن تبكى أمام قبر لا تعرف من بداخله".. لا عليك يا صديقى، سنبدأ الآن مكاشفة أخيرة أجلناها طويلاً تحت سطوة كلمات كبيرة عن الصداقة والإخلاص ومحبة الآخر وأقنعة المثقفين وأوهام الخلود التى تجعل الذين يكتبون حزانى، لأنهم يشعرون بآلام خروج الأجنحة من الظهر، فقط الآلام، لكن لا ريش ولا أجنحة لا عليك يا صديقى تلك آخر الآلام سنتحملها سوياً، سأتحملها عنك وعنى، وسنظهر جرأة ما اعتادها الناس منا، سنقذف بكل ما اخترناه داخلنا هكذا دفعة واحدة دون حرص على شىء أو أحد.. لا عليك يا صديقى.

فخ الصداقة
أحد أيام الثلاثاء من عام 1993، فى أحد مقاهى وسط البلد، والمكان يضج بالحركة وأنا مستوحش برفقة أحد الأصدقاء أنتظرك ولا أعرفك.. بعد فترة دخل شاب طويل وأقرب للنحافة، عرفت أنه أنت، ورأيت حينها أنك تدعى البساطة والتواضع، خاصة وأنت تتحرك بين الكراسى تجمع أوراقاً متنوعة لمجلة تشارك فى إصدارها.

لا تغضب، فبيننا اتفاق على الصراحة، لم أشعر بارتياح تجاهك حينها، ربما لأنه استقر بعقلى أن من سلطتك الموافقة على نشر قصيدتى أو رفضها، وربما لأننى ظننتك طليقاً تفعل ما تُحب بينما كنت مقيداً إلى الطب والمستقبل والأسرة وفشل حبى الأول وبداية اشمئزازى من العالم، ولا أعرف إلى أين تقودنى خطواتى؟.

هكذا كان الانطباع الأول، لم أكرهك – والله – فقط شعرت بالقلق، لكنها عاداتى فأنا دائماً أشعر بالقلق عندما أرى الناس لأول مرة، ويتملكنى هاجس مشوش تجاههم وكأنهم يتآمرون علىَّ، لا ليس هكذا، فهذه مبالغة، أظن يتهامسون علىَّ مناسبة أكثر.

لكن يبدو أن التجاور فى المقاهى ينشر بين الناس شعوراً مبهماً بالاعتياد وربما بعض الراحة.

هكذا ثلاثاء بعد آخر، ونقاش تلو آخر، ضحكة من القلب مرة وابتسامة فاترة مرات أخرى.. أكواب شاى تدور وفصول تتغير ووجوه لا يفارقها القلق حتى فى ذروة الاستعراض أو النشوة بكتاب تكلفته مقتطعة من اللحم الحى.
ونقول أصبحنا أصدقاء، فهل تنشأ بين الأحجار المتراصة صداقة؟
تصور، لم تقل لى، ولن أعرف أبداً، ماذا كان شعورك عندما رأيتنى لأول مرة؟

تلك الأسئلة الغريبة التى لا إجابة لها ورغم ذلك نطرحها، هكذا ببلاهة الأطفال عندما ينظرون إلى وجوه آبائهم ويسألون: كيف جئنا إلى الدنيا؟.

ولما لا يجد الآباء إجابة مناسبة، يستعيرون بعض البلاهة من وجوه أطفالهم ثم يقولون مثلاً: الله أرسلكم إلينا لأننا نطيعه فى كل شىء، أنتم مكافأة الله لنا.. ومن يستطيع أن يتوقع حينها ما ستنطق به الأفواه الصغيرة؟.. وما الذى يستطيعه "الآباء ـ الكبار" المساكين عندما تتدافع إليهم تلك الكلمات:
- عمنا رجل شرير يا أبى.
- عيب يا أولاد، عمكم رجل طيب.
- لا شرير، لأن الله لم يرسل له أطفالاً مثلناً!!
فهل تظن يا صديقى أن الله أرسلنا للمقاهى كى نتقابل؟
تصور الآن أرى المقاهى مثل شباك صيد ونحن مجرد أسماك خدعها البريق، أو كما قال أحد المجانين "أفضل وصف، غير المدخنين" الذى قابلتهم "إذا كان الإنسان ينتحر بالقفز فى الماء، فالأسماك تنتحر بالقفز فى الشباك، أهو كله انتحار".. فما الذى يجعل للحياة قيمة؟، وما الذى يجعلنا نوزع أيامنا على الشوارع والمقاهى ومكاتب المجلات ودور النشر؟.. ما الذى يجعلنا نفكر فى الحياة أكثر حتى من محاولة أن نحياها؟.. نحن المخلوقات شاحبة الوجوه غالباً، والتى تخاف كل شىء.. تخاف الحياة كما تخاف الموت، وتخاف الكلام كما تخاف الصمت، تخاف الوحدة كما تخاف الآخرين والزحام، تخاف من اللصوص والشرطة وبنات الليل والعشيقات والزوجات، تخاف من الأحلام.. هكذا يا صديقى التقينا بأحد المقاهى، ووزعنا أيامنا ببساطة بين نظرة عين، ارتجافة نهد أو اهتزازة مؤخرة.. سنتغاضى عن نقائصنا الكثيرة وعن الخيبات التى تركت آثارها على كل شئ فينا.. ونقول: نحتاج بعض، ولا يوجد شخص كله عيوب تلك أحزاننا ولن نستطيع الحياة دون الهمس ببعضها إلى الآخرين.

أصدقاء على الخيبات والأحزان، نتبادل طعم المرارة فى حكمة وحبور، ونعيد ترتيب المواقف والأحداث، ونتعمق فى التحليل، ونبدو فوق كراسى المقاهى كما لو كان فلاسفة اليونان قد خرجوا من الكتب أو كأننا لا نحمل فى جيوبنا بضعة جنيهات ونكذب حتى على أجسادنا ونحن نرتدى جوارب وملابس داخلية بالية. هكذا نتبادل الأكاذيب ببساطة حتى ونحن فى لحظات البوح بما يثقل الصدور، أى شىء يثقل الصدر.. أى شىء لا يثقل الصدر.

تعالَ نتابع ذلك لمرة، تعال نتابع المشهد عن بعد.. ياااه ألهذا الحد نبدو فى جلستنا ليس فقط مصدراً لإثارة السخرية بل والأسى.. فمن بعيد تتكشف تلك التفاصيل التى يحجبها القرب، ومن زمان ومقاهى المثقفين تبدو مثل سيرك يضم بعض الحيوانات العجوز التى لا تتقن شيئاً سوى الإيماءات الغريبة وحركات الأيدى المرتبكة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة