ثمانية وعشرون عاماً هى ما تفصلنا عن اليوم الذى رحل فيه شاعر مصر الكبير صلاح عبد الصبور، فى اليوم الثالث عشر من أغسطس لسنة 1981 أوجعنا عبد الصبور برحيله المفاجئ الذى حصد روحه بغتة وهى تستعد لجولة جديدة من العطاء والإبداع، ومن الموجع والمبهر فى الوقت نفسه أن عبد الصبور كان قد تنبأ بوفاته كالعارفين الكبار حينما قال فى قصيدة "أغنية لليل": وإن أتانى الموت، فلأمت محدثاً أو سامعاً" وهو ما حدث بالفعل حينما احتد النقاش مع خصوم الرأى، فانبرى الشاعر يدافع عن نفسه إزاء تهم بعض الأصدقاء المتربصين، الذين نعتوه بالخيانة والطأطأة، فسقط قلبه المرهق ضحية "للقتل بالكلمات"، وهى نفس النهاية التى اختارها عبد الصبور لبطله فى مسرحية "مأساة الحلاج"!
وبالرغم من ذلك فإن شاعرنا الذى كان قد تخطى الخمسين بقليل، استطاع أن يجمع بين ثلاثة منابع ثرية هى الشعر الغنائى، والمسرح الشعرى، والكتابة النقدية، ففى الشعر استطاع أن يخلص إلى صوته الخاص بعد دأب وعناء مع تجربته الشعرية، وهو ما عبر عنه شعراً حين قال: ولكنى تعذبت لكى أعرف معنى الحرف... ومعنى الحرف إذ يُجمع جنب الحرف... ولكنى تعذبت لكى أحتال للمعنى... لكى أملك فى حوزتى المعنى مع المبنى... لكى أسمعكم صوتى فى مجتمع الأصوات" وقد حظى عبد الصبور فعلاً بصوته المتفرد، مطعماً قصيدته بفنيات رائقة، وتقنيات مبتكرة، وحس درامى لافت كان الرحم الذى تخلق منه مسرحه الشعرى، معتلياً قمة عالية لم يستطع أن يرتقى إليها أحد حتى لحظتنا الراهنة، فى ظاهرة يجسدها العنوان اللافت لكتاب "هيمنة الغائب" للناقد الصديق د.علاء الجابرى مؤكداً على هيمنة صلاح عبد الصبور على من أتى بعده من شعراء المسرح، وإلى جانب القدرة الشعرية والاقتدار المسرحى تميز عبد الصبور عن أقرانه بقدرته النقدية التأصيلية التى مكنته من التوغل إلى أعماق تجربته الإبداعية، وجعلته قادراً على قراءة المشهد الإبداعى العربى والعالمى، قديماً وحديثاً، وبدا وكأنه يغرد خارج السرب عبر موهبته الفياضة وذكائه الحاد، وثقافته العميقة.
وقد كان عبد الصبور مولعاً بجدل الشاعر مع التاريخ، وكان كثيراً ما يناوش فكرة الأصالة الإبداعية التى تمكن المبدع من تجاوز لحظته الراهنة والتحليق إلى أفق متسع يخاطب الجوهر الإنسانى المشترك، وقد طرح هذا التساؤل المحورى فى كتابه المهم "ما الذى يبقى منهم للتاريخ؟" محللاً تجارب طه حسين والعقاد والحكيم والمازنى، فهل نستطيع نحن الآن أن نتساءل: ما الذى يبقى من عبد الصبور للتاريخ؟ يبدو السؤال عصياً على الإجابة؛ فمشروع عبد الصبور الإبداعى الممتد ما زال يلقى بظلاله على كل الأصعدة الثقافية والإبداعية، منسرباً كالماء فى جسد الثقافة العربية، ابتداءً من اسمه الذى يتردد صباح مساء فى المنتديات الأدبية والندوات والمؤتمرات الثقافية، ومروراً بحضوره الطاغى وتأثيراته العميقة فى قصائد بعض مجايليه وبعض شعراء جيل الستينيات ومن تلاهم من أجيال الشعراء حتى يومنا هذا، بل إن شاعراً بقامة محمود درويش لم يسلم من التأثر الواضح بعبد الصبور ولو على سبيل التناص العكسى وإعادة التأويل لمفهوم الشعر والشاعر، ويظهر هذا بصورة لافتة فى قصيدة المهمة "لاعب النرد" التى أقامت حواراً نصياً خفياً مع قصيدتى عبد الصبور "أقول لكم"، و"الحزن"، حيث يعد صاحب "أقول لكم" أول من وظف العبارة الإنجيلية "الحق الحق أقول لكم" فى الشعر العربى المعاصر، وهذه العبارة هى التى ارتكز درويش عليها فى هذه القصيدة المهمة والتى تعد بياناً ختامياً لرحلة الشاعر مع الشعر، وكذلك يعد عبد الصبور أول من قدم مفهوماً مغايراً للشاعر الذى لا يدعى نبوة أو تميزاً وإنما يمشى فى محراب الشعر بحذائه المرتوق، ممسكاً بكوب شاى، متسكعاً بين أوقات الضياع، جالسا ًبالساعات إلى طاولة النرد.
يقول عبد الصبور "أجافيكم لأعرفكم" فابتكر من الجفاء "لعبة" للمعرفة وللغوص فى أعماق الإنسان، وهو ما تم له بالفعل، فهل جافيناه لنعرفه؟ وهل نستطيع الآن أن نقول بعد كل هذا الحضور: ما الذى يبقى من صلاح عبد الصبور للتاريخ؟ أظن أن السؤال ما زال عصياً على الإجابة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة