الأسير رواية لعبد الله يسري

الخميس، 13 أغسطس 2009 08:39 م
الأسير رواية لعبد الله يسري

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الجزء الأول

رصاص ينهمر كالمطر بصحبة القذائف ودانات المدافع، ليصنع حلقة من نار، قطرها لا يتعدى المائة متر، كل قذيفة تسقط، تصنع حفرة تكفى لإخفاء عربتن.
الأشلاء والأحشاء والدماء تتطاير، صرخات الجنود باتت واضحة جلية بين الأصوات، كأن شياطين الأرض تتجمع عن بكرة أبيهم فى مباراة لسفك الدماء فى تلك البقعة من سيناء.

120 ضابطا وجنديا مصريا فى أقل من عشر دقائق أصبحوا 6 أفراد فقط بعد توقف المدافع.

الهلع والخوف والرعب إذا أراد أن يتجسد، فلن يجد غير هؤلاء الجنود المتبقين والذين بدأوا النهوض رافعين أيديهم أمام أسلحة الإسرائيليين، فى مقدمتهم أحمد الذى يحمل رتبة رائد والذى لا يدرى ما الذى حدث؟

كل ما يذكره قبل هذا الجحيم أنه كان هو وجنوده على متن عربة تجر مدفعا ومتجهين إلى الطريق المؤدية للسويس، بعد أن وصلتهم التعليمات بالانسحاب، لكنهم وفجأة رأوا لافتة كتب عليها "العريش"، وما هى إلا لحظات قبل استيعاب كامل الموقف وبدأت النيران تحصد الأرواح بعشوائية الموت وفوضى الحرب.

على تلك البقعة الخضراء المكسوة بأشجار الجوزلين والبلوط والصفصاف من دمنهور، نشأت وترعرعت فى كنف والدى تاجر القماش..... تربيته كانت ميسورة وعينه دائما مليئة.... وأنا رقم اثنين فى أبنائه السبعة، أبى كان يتوسم فىّ مستقبلا باهرا وكان يكلفنى بمسئوليات أكبر من سنى.

ذات مرة أخذنى بعد رسوبى فى كل المواد فى أولى ثانوى ومشينا معا فى السوق الكبيرة فى دمنهور، ثم إلى الحوارى والأزقة وأعطانى درسا مطولا فى الحياة، عدت بعدها إلى المنزل وانقضضت على كتبى وذاكرت ونجحت فى كل المواد دون أى درس خصوصى.

لا أنسى مواقف أبى المتكررة التى كانت تكرس بداخلى المسئولية وتحملها.... أذكر وأنا ابن العشر سنين أن أعطانى يومها 500 جنيه للخواجة إبراهيم روبين اليهودى، صاحب محل القماش فى شارع التتويج بالإسكندرية _محمد كريم حاليا _ كنت أجلس فى القطار خائفا من السرقة، وكان الخواجة عندما يرانى فى كل مرة يفرح ويعبر عن فرحته بتقديم الحلوى والطعام لى فى المحل.

أول حب لى "لندا"، هى فتاة يهودية وكنت ساعتها فى بداية سنوات المراهقة، لقاؤنا الأول كان على شاطئ سبورتنج... بالمناسبة، كانت أكبر منى ببضع سنوات، وأحيانا كنا نتقابل فى شقتها فى الأزريطة، لكن بعد تأكدى من سرقتها لساعتى، انقطعت عنها تماما.

تعرفت بعدها على فتاة مثلت نقطة تحول فى حياتى، أيامها كانت المظاهرات تملأ الشوارع، هذه الفتاة خلقت بداخلى الطموح والرغبة فى النجاح، فصعدت وقتها إلى السنة الرابعة الثانوية_ الثانوية ساعتها كانت 5 سنوات _كنت أعشقها بلا حدود، لكنها كانت مسيحية، وسرعان ما افترقنا بعد علم والدها بهذه العلاقة ويأسى من جدوى استمرارها.

دخولى الكلية الحربية كان باختيارى وكامل إرادتى وأبى ساعدنى فى ذلك، لكننى أذكر أنى رسبت فى امتحان الألوان ضمن امتحانات القبول فى الكلية، وصدمت ساعتها جدا.

وكان لوالدى صديق طبيب، قال لى (ده عيب خلقى، وليس له دواء.. روح مصر واشترى كتاب بتاع الألوان وأحفظه) كان هذا عام 1955 وكان ثمن الكتاب 5جنيهات.. كنت أجلس فى "اكسليسيور" وسط القاهرة وأشرب البن الفرنسى ومعى ابن عمتى والذى كان يقوم بتمرينى على الألوان، وقبل الانتهاء من الدرس اليومى، نتناول طبق المكرونة الفرن وكان ثمنها "شلن" ثم نحلى بشقة البطيخ الشلين... وبعد تحدى للذات، خضت امتحانات القبول فى السنة التالية، وأصبحت طالبا فى الكلية الحربية، فى أغسطس 1956....... وهنا سادت حالة من الصمت الغرفة المظلمة التى كان يجلس فى زاويتها أحمد على كرسى خشبى وأمامه طاولة خشبية على سطحها نتوءات وبعض المسامير الغائر نصفها للأسفل والمثبت بها أسلاك الصعق، كان ضوء المصباح المثبت على وجه أحمد كفيلا أن يجعل عينيه مغلقتين طوال الوقت الذى كان يسرد فيه حكايته أمام لجنة الاستجواب المكونة من محقق يتكلم اللهجة المصرية كأحد أبناء شبرا، وضابط برتبة عميد ملامحه أوروبية، يتبادل التعليق مع المحقق على ما يقوله أحمد بالإنجليزية والعبرية أحيانا..

صوت الضابط كسر ذلك الصمت وهو يقول للمحقق: ما من جديد، هذه هى المرة الثالثة منذ أسره والتى يسرد فيها نفس الحكاية...، وصمت لحظة وهو يفكر ثم توجه بالسؤال إلى أحمد مباشرة بالإنجليزية:

ما رأيك فى عبدالناصر؟
أحمد وقد بدا الإرهاق عليه بعد ساعات من الاستجواب: كل واحد عنده نقاط سلبية ونقاط إيجابية.

تبادل الضابط والمحقق النظرات ثم اتجه المحقق إلى أحمد بالعربية: ماذا تعرف عن إسرائيل؟

وهنا بدت ابتسامة شاحبة على وجه أحمد وهو يجيب: بصراحة ده مش دولة، ناس عايشة فى أكواخ من الصاج والصفيح ومش لاقيين يأكلوا.. شوية عصابات عايشين على المعونات.

عاد الضابط والمحقق لتبادل النظرات ثم وبنظرة حاسمة اتجه الضابط نحو أحمد قائلا :funny
ثم فاجأ أحمد بلهجة مصرية صحيحة: حانطلعك تشوف بعينك وتسمع بودانك.

وفى صباح اليوم التالى الموافق 1-7-1967 كان أحمد داخل معسكر "عتليت "وبصحبة أحد العساكر الإسرائيليين فى مخزن الملابس، لاختيار المقاس المناسب له، تأهبا للزيارة الأولى لإسرائيل.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة